[ ص: 262 ] تنبيه مهم :
يجب على كل مسلم يخاف العرض على ربه يوم القيامة ، أن يتأمل فيه ليرى لنفسه المخرج من هذه الورطة العظمى ، والطامة الكبرى ، التي عمت جل بلاد المسلمين من المعمورة .
وهي ادعاء الاستغناء عن كتاب الله وسنة رسوله ، استغناء تاما في جميع الأحكام من عبادات ومعاملات ، وحدود وغير ذلك ، بالمذاهب المدونة .
وبناء هذا على مقدمتين :
إحداهما : أن
العمل بالكتاب والسنة لا يجوز إلا للمجتهدين .
والثانية : أن المجتهدين معدومون عدما كليا ، لا وجود لأحد منهم في الدنيا ، وأنه بناء على هاتين المقدمتين ، يمنع العمل بكتاب الله وسنة رسوله منعا باتا على جميع أهل الأرض ، ويستغنى عنهما بالمذاهب المدونة .
وزاد كثير منهم على هذا منع تقليد غير المذاهب الأربعة ، وأن ذلك يلزم استمراره إلى آخر الزمان .
فتأمل يا أخي رحمك الله : كيف يسوغ لمسلم ، أن يقول بمنع الاهتداء بكتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعدم وجوب تعلمهما والعمل بهما استغناء عنهما بكلام رجال غير معصومين ولا خلاف في أنهم يخطئون .
فإن كان قصدهم أن الكتاب والسنة ، لا حاجة إلى تعلمهما ، وأنهما يغني غيرهما ، فهذا بهتان عظيم ، ومنكر من القول وزور .
وإن كان قصدهم أن تعلمهما صعب لا يقدر عليه ، فهو أيضا زعم باطل ; لأن تعلم الكتاب والسنة أيسر من تعلم مسائل الآراء والاجتهاد المنتشرة ، مع كونها في غاية التعقيد
[ ص: 263 ] والكثرة ، والله - جل وعلا - يقول في سورة القمر مرات متعددة :
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ 54 \ 17 - 22 - 32 - 40 ] ، ويقول تعالى في الدخان :
فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون [ 44 \ 58 ] ، ويقول في مريم :
فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] .
فهو كتاب ميسر بتيسير الله لمن وفقه الله للعمل به ، والله - جل وعلا - يقول :
بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم [ 29 \ 49 ] ، ويقول :
ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 52 ] .
فلا شك أن الذي يتباعد عن هداه يحاول التباعد عن هدى الله ورحمته .
ولا شك أن هذا القرآن العظيم هو النور الذي أنزله الله إلى أرضه ، ليستضاء به ، فيعلم في ضوئه الحق من الباطل ، والحسن من القبيح ، والنافع من الضار ، والرشد من الغي .
قال الله تعالى :
ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا [ 4 \ 174 ] .
وقال تعالى :
قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [ 5 \ 15 ] ، وقال تعالى :
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [ 42 \ 52 ] ، وقال تعالى :
فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا [ 64 \ 8 ] ، وقال تعالى :
فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [ 7 \ 157 ] .
فإذا علمت أيها المسلم أن هذا القرآن العظيم ، هو النور الذي أنزله الله ليستضاء به ، ويهتدى بهداه في أرضه ، فكيف ترضى لبصيرتك أن تعمى عن النور .
فلا تكن خفاشي البصيرة ، واحذر أن تكون ممن قيل فيهم :
خفافيش أعماها النهار بضوئه
ووافقها قطع من الليل مظلم
مثل النهار يزيد أبصار الورى
نورا ويعمي أعين الخفاش
[ ص: 264 ] يكاد البرق يخطف أبصارهم [ 2 \ 20 ] ،
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب [ 13 \ 19 ] .
ولا شك أن من عميت بصيرته عن النور تخبط في الظلام ، ومن لم يجعل الله له نورا ، فما له من نور .
وبهذا تعلم أيها المسلم المنصف ، أنه يجب عليك الجد والاجتهاد في
تعلم كتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالوسائل النافعة المنتجة ، والعمل بكل ما علمك الله منهما علما صحيحا .
ولتعلم أن تعلم كتاب الله وسنة رسوله في هذا الزمان أيسر منه بكثير في القرون الأولى ، لسهولة معرفة جميع ما يتعلق بذلك ، من ناسخ ومنسوخ وعام وخاص ، ومطلق ومقيد ، ومجمل ومبين وأحوال الرجال ، من رواة الحديث ، والتمييز بين الصحيح والضعيف ; لأن الجميع ضبط وأتقن ودون ، فالجميع سهل التناول اليوم .
فكل آية من كتاب الله قد علم ما جاء فيها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم من الصحابة والتابعين وكبار المفسرين .
وجميع الأحاديث الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - حفظت ودونت ، وعلمت أحوال متونها وأسانيدها ، وما يتطرق إليها من العلل والضعف .
فجميع الشروط التي اشترطوها في الاجتهاد يسهل تحصيلها جدا على كل من رزقه الله فهما وعلما .
والناسخ والمنسوخ ، والخاص والعام ، والمطلق والمقيد ، ونحو ذلك تسهل معرفته اليوم على كل ناظر في الكتاب والسنة ممن رزقه الله فهما ووفقه لتعلم كتاب الله وسنة رسوله .
واعلم أيها المسلم المنصف ، أن من أشنع الباطل وأعظم القول بغير الحق ، على الله وكتابه وعلى النبي وسنته المطهرة ، ما قاله الشيخ
أحمد الصاوي في حاشيته على الجلالين في سورة الكهف وآل عمران واغتر بقوله في ذلك خلق لا يحصى من المتسمين باسم طلبة العلم ; لكونهم لا يميزون بين حق وباطل .
[ ص: 265 ] فقد قال
الصاوي أحمد المذكور في الكلام على قوله تعالى
ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا [ 18 \ 23 ] بعد أن ذكر الأقوال في انفصال الاستثناء عن المستثنى منه بزمان - ما نصه : وعامة المذاهب الأربعة على خلاف ذلك كله ، فإن شرط حل الأيمان بالمشيئة أن تتصل ، وأن يقصد بها حل اليمين ، ولا يضر الفصل بتنفس أو سعال أو عطاس ، ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية ، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل ، وربما أداه ذلك للكفر ; لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر . انتهى منه بلفظه .
فانظر يا أخي - رحمك الله - ما أشنع هذا الكلام وما أبطله ، وما أجرأ قائله على الله وكتابه ، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه
سبحانك هذا بهتان عظيم .
أما قوله بأنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة ، ولو كانت أقوالهم مخالفة للكتاب والسنة ، وأقوال الصحابة ، فهو قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، وإجماع الأئمة الأربعة أنفسهم ، كما سنرى إيضاحه إن شاء الله بما لا مزيد عليه في المسائل الآتية بعد هذه المسألة ، فالذي ينصره هو الضال المضل .
وأما قوله : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، فهذا أيضا من أشنع
[ ص: 266 ] الباطل وأعظمه ، وقائله من أعظم الناس انتهاكا لحرمة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -
سبحانك هذا بهتان عظيم .
والتحقيق الذي لا شك فيه ، وهو الذي كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعامة علماء المسلمين أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال من الأحوال بوجه من الوجوه ، حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح .
والقول بأن العمل بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يصدر البتة عن عالم بكتاب الله وسنة رسوله ، وإنما يصدر عمن لا علم له بالكتاب والسنة أصلا ; لأنه لجهله بهما يعتقد ظاهرهما كفرا ، والواقع في نفس الأمر أن ظاهرهما بعيد مما ظنه أشد من بعد الشمس من اللمس .
ومما يوضح لك ذلك : أن آية الكهف هذه التي ظن الصاوي أن ظاهرها حل الأيمان بالتعليق بالمشيئة المتأخر زمنها عن اليمين ، وأن ذلك مخالف للمذاهب الأربعة : وبنى على ذلك أن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، كله باطل لا أساس له .
وظاهر الآية بعيد مما ظن ، بل الظن الذي ظنه والزعم الذي زعمه لا تشير الآية إليه أصلا ، ولا تدل عليه لا بدلالة المطابقة ، ولا التضمن ولا الالتزام ، فضلا على أن تكون ظاهرة فيه .
وسبب نزولها يزيد ذلك إيضاحا ; لأن سبب نزول الآية أن الكفار سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح ، وأصحاب الكهف ، وذي القرنين ، فقال لهم : سأخبركم غدا ، ولم يقل إن شاء الله ، فعاتبه ربه بعدم تفويض الأمر إليه ، وعدم تعليقه بمشيئته - جل وعلا - فتأخر عنه الوحي .
ثم علمه الله في الآية الأدب معه ، في قوله :
ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] .
ثم قال لنبيه :
واذكر ربك إذا نسيت [ 18 \ 24 ] ، يعني إن قلت سأفعل كذا غدا ، ثم نسيت أن تقول : إن شاء الله ، ثم تذكرت بعد ذلك ، فاذكر ربك ، أي قل : إن شاء الله ، أي لتتدارك بذلك الأدب مع الله الذي فاتك عند وقته ، بسبب النسيان ، وتخرج من عهدة النهي في قوله تعالى :
ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله .
[ ص: 267 ] والتعليق بهذه المشيئة المتأخرة لأجل المعنى المذكور الذي هو ظاهر الآية الصحيح لا يخالف مذهبا من المذاهب الأربعة ولا غيرهم ، وهو التحقيق في مراد
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس بما ينقل عنه من جواز تأخير الاستثناء كما أوضحه كبير المفسرين
nindex.php?page=showalam&ids=16935أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله .
وقد قدمنا إيضاحه في الكلام على آية الكهف هذه . فيا أتباع الصاوي المقلدين له تقليدا أعمى على جهالة عمياء ، أين دل ظاهر آية الكهف هذه على اليمين بالله ، أو بالطلاق ، أو بالعتق ، أو بغير ذلك من الأيمان ؟
هل النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف لما قال للكفار : سأخبركم غدا ؟
وهل قال الله : ولا تقولن لشيء إني حالف سأفعل ذلك غدا ؟
ومن أين جئتم باليمين ، حتى قلتم : إن ظاهر القرآن هو حل الأيمان بالمشيئة المتأخرة عنها ، وبنيتم على ذلك أن ظاهر الآية مخالف لمذاهب الأئمة الأربعة ، وأن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ؟
ومما يزيد ما ذكرنا إيضاحا ما قاله الصاوي أيضا في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى :
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله [ 3 \ 7 ] ، فإنه قال على كلام الجلال ما نصه : زيغ أي ميل عن الحق للباطل ، قوله : بوقوعهم في الشبهات واللبس ، أي
كنصارى نجران ، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظاهر القرآن ، فإن العلماء ذكروا أن من أصول الكفر الأخذ بظواهر الكتاب والسنة ا هـ .
فانظر - رحمك الله - ما أشنع هذا الكلام ، وما أبطله ، وما أجرأ قائله على انتهاك حرمات الله وكتابه ونبيه وسنته - صلى الله عليه وسلم - وما أدله على أن صاحبه لا يدري ما يتكلم به . فإنه جعل ما قاله
نصارى نجران هو ظاهر كتاب الله ، ولذا جعل مثلهم من حذا حذوهم ، فأخذ بظاهر القرآن .
وذكر أن العلماء قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، مع أنه لا يدري وجه ادعاء
نصارى نجران على ظاهر القرآن أنه كفر ، مع أنه مسلم أن ادعاءهم على ظاهر القرآن أنه كفرهم ومن حذا حذوهم ادعاء صحيح ، إلا أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر .
[ ص: 268 ] وقد قال قبل هذا : قيل سبب نزولها أن وفد
نجران قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم :
ألست تقول : إن عيسى روح الله وكلمته ؟ فقال : نعم ، فقالوا : حسبنا ، أي كفانا ذلك في كونه ابن الله . فنزلت الآية .
فاتضح أن الصاوي يعتقد أن ادعاء
نصارى نجران أن ظاهر قوله تعالى :
وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه [ 4 \ 171 ] ، هو أن
عيسى ابن الله ادعاء صحيح ، وبنى على ذلك أن العلماء قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر .
وهذا كله من أشنع الباطل وأعظمه ، فالآية لا يفهم من ظاهرها البتة ، بوجه من الوجوه ، ولا بدلالة من الدلالات ، أن
عيسى ابن الله ، وادعاء
نصارى نجران ذلك كذب بحت .
فقول الصاوي
كنصارى نجران ، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظواهر القرآن صريح في أنه يعتقد أن ما ادعاه وفد نجران من كون
عيسى ابن الله هو ظاهر القرآن اعتقاد باطل باطل باطل ، حاشا القرآن العظيم من أن يكون هذا الكفر البواح ظاهره ، بل هو لا يدل عليه البتة فضلا عن أن يكون ظاهره ، وقوله :
وروح منه كقوله تعالى :
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ 45 \ 13 ] ، أي كل ذلك من
عيسى ومن تسخير السماوات والأرض مبدؤه ومنشؤه - جل وعلا .
فلفظة " من " في الآيتين لابتداء الغاية ، وذلك هو ظاهر القرآن وهو الحق خلافا لما زعمه الصاوي وحكاه عن
نصارى نجران .
وقد اتضح بما ذكرنا أن الذين يقولون : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يعلمون ما هي الظواهر ، وأنهم يعتقدون شيئا ظاهر النص ، والواقع أن النص لا يدل عليه بحال من الأحوال فضلا عن أن يكون ظاهره .
فبنوا باطلا على باطل ، ولا شك أن الباطل لا يبنى عليه إلا الباطل .
ولو تصوروا معاني ظواهر الكتاب والسنة على حقيقتها لمنعهم ذلك من أن يقولوا ما قالوا .
فتصور الصاوي أن ظاهر آية الكهف المتقدمة هو حل الأيمان ، بالتعليق بالمشيئة
[ ص: 269 ] المتأخر زمنها عن اليمين ، وبناؤه على ذلك مخالفة ظاهر الآية لمذاهب الأئمة الأربعة ، وأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، مع أن الآية لا تشير أصلا إلى ما اعتقد أنه ظاهرها .
وكذلك اعتقاده أن ظاهر آية آل عمران المذكورة هو ما زعمه
نصارى نجران ، من أن
عيسى ابن الله فإنه كله باطل وليس شيء مما زعم - ظاهر القرآن مطلقا ، كما لا يخفى على عاقل .
وقول الصاوي في كلامه المذكور في سورة آل عمران : إن العلماء قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، قول باطل لا يشك في بطلانه من عنده أدنى معرفة .
ومن هم العلماء الذين قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ؟
سموهم لنا ، وبينوا لنا من هم ؟
والحق الذي لا شك فيه أن هذا القول لا يقوله عالم ، ولا متعلم ; لأن ظواهر الكتاب والسنة هي نور الله الذي أنزله على رسوله ليستضاء به في أرضه وتقام به حدوده ، وتنفذ به أوامره ، وينصف به بين عباده في أرضه .
والنصوص القطعية التي لا احتمال فيها قليلة جدا لا يكاد يوجد منها إلا أمثلة قليلة جدا كقوله تعالى :
فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة [ 2 \ 196 ] .
والغالب الذي هو الأكثر هو كون نصوص الكتاب والسنة ظواهر .
وقد أجمع جميع المسلمين على أن
العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه إلى المحتمل المرجوح ، وعلى هذا كل من تكلم في الأصول .
فتنفير الناس وإبعادها عن كتاب الله ، وسنة رسوله ، بدعوى أن الأخذ بظواهرهما من
[ ص: 270 ] أصول الكفر هو من أشنع الباطل وأعظمه كما ترى .
وأصول الكفر يجب على كل مسلم أن يحذر منها كل الحذر ، ويتباعد منها كل التباعد ويتجنب أسبابها كل الاجتناب فيلزم على هذا القول المنكر الشنيع وجوب التباعد من الأخذ بظواهر الوحي .
وهذا كما ترى ، وبما ذكرنا يتبين أن من أعظم أسباب الضلال ادعاء أن ظواهر الكتاب والسنة دالة على معان قبيحة ، ليست بلائقة .
والواقع في نفس الأمر بعدها وبراءتها من ذلك .
وسبب تلك الدعوى الشنيعة على ظواهر كتاب الله ، وسنة رسوله ، هو عدم معرفة مدعيها .
ولأجل هذه البلية العظمى ، والطامة الكبرى ، زعم كثير من النظار الذين عندهم فهم ، أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها غير لائقة بالله ، لأن ظواهرها المتبادرة منها هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه ، وعقد ذلك المقرئ في إضاءته في قوله :
والنص إن أوهم غير اللائق بالله كالتشبيه بالخلائق فاصرفه عن ظاهره إجماعا واقطع عن الممتنع الأطماعا وهذه الدعوى الباطلة من أعظم الافتراء على آيات الله تعالى ، وأحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم .
والواقع في نفس الأمر أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها المتبادرة منها ، لكل مسلم راجع عقله ، هي مخالفة صفات الله لصفات خلقه . ولا بد أن نتساءل هنا ، فنقول :
أليس الظاهر المتبادر
مخالفة الخالق للمخلوق في الذات والصفات والأفعال ؟
والجواب الذي لا جواب غيره : بلى .
وهل تشابهت صفات الله مع صفات خلقه حتى يقال إن اللفظ الدال على صفته
[ ص: 271 ] تعالى ظاهره المتبادر منه تشبيهه بصفة الخلق ؟
والجواب الذي لا جواب غيره : لا .
فبأي وجه يتصور عاقل أن لفظا أنزله الله في كتابه مثلا دالا على صفة من صفات الله أثنى بها تعالى على نفسه يكون ظاهره المتبادر منه مشابهته لصفة الخلق ؟
سبحانك هذا بهتان عظيم .
فالخالق والمخلوق متخالفان كل التخالف وصفاتهما متخالفة كل التخالف .
فبأي وجه يعقل دخول صفة المخلوق في اللفظ الدال على صفة الخالق ؟ أو دخول صفة الخالق في اللفظ الدال على صفة المخلوق مع كمال المنافاة بين الخالق والمخلوق ؟
فكل لفظ دل على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقا بالخالق منزها عن مشابهة صفات المخلوق .
وكذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن تدخل فيه صفة الخالق .
فالظاهر المتبادر من لفظ اليد بالنسبة للمخلوق ، هو كونها جارحة هي عظم ولحم ودم ، وهذا هو الذي يتبادر إلى الذهن في نحو قوله تعالى :
فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] .
والظاهر المتبادر من اليد بالنسبة للخالق في نحو قوله تعالى :
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، أنها صفة كمال وجلال ، لائقة بالله - جل وعلا - ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله .
وقد بين - جل وعلا - عظم هذه الصفة وما هي عليه من الكمال والجلال ، وبين أنها من صفات التأثير كالقدرة ، قال تعالى في تعظيم شأنها :
وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [ 39 \ 67 ] .
[ ص: 272 ] وبين أنها صفة تأثير كالقدرة في قوله تعالى :
قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ، فتصريحه تعالى بأنه خلق نبيه آدم بهذه الصفة العظيمة التي هي صفات كماله وجلاله يدل على أنها من صفات التأثير كما ترى .
ولا يصح هنا تأويل اليد بالقدرة البتة ، لإجماع أهل الحق والباطل ، كلهم على أنه لا يجوز تثنية القدرة .
ولا يخطر في ذهن المسلم المراجع عقله دخول الجارحة التي هي عظم ولحم ودم في معنى هذا اللفظ الدال على هذه الصفة العظيمة من صفات خالق السماوات والأرض .
فاعلم أيها المدعي أن ظاهر لفظ اليد في الآية المذكورة وأمثالها لا يليق بالله ; لأن ظاهرها التشبيه بجارحة الإنسان ، وأنها يجب صرفها عن هذا الظاهر الخبيث ، ولم تكتف بهذا حتى ادعيت الإجماع على صرفها عن ظاهرها - أن قولك هذا كله افتراء عظيم على الله تعالى ، وعلى كتابه العظيم ، وأنك بسببه كنت أعظم المشبهين والمجسمين ، وقد جرك شؤم هذا التشبيه إلى ورطة التعطيل ، فنفيت الوصف الذي أثبته الله في كتابه لنفسه بدعوى أنه لا يليق به ، وأولته بمعنى آخر من تلقاء نفسك بلا مستند من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا قول أحد من السلف .
وماذا عليك لو صدقت الله ، وآمنت بما مدح به نفسه على الوجه اللائق بكماله وجلاله من غير كيف ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل ؟
وبأي موجب سوغت لذهنك أن يخطر فيه صفة المخلوق عند ذكر صفة الخالق ؟
هل تلتبس صفة الخالق بصفة المخلوق عن أحد حتى يفهم صفة المخلوق من اللفظ الدال على صفة الخالق ؟
فاخش الله يا إنسان ، واحذر من التقول على الله بلا علم ، وآمن بما جاء في كتاب الله مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه .
واعلم أن الله الذي أحاط علمه بكل شيء لا يخفى عليه الفرق بين الوصف اللائق به والوصف غير اللائق به ، حتى يأتي إنسان فيتحكم في ذلك فيقول : هذا الذي وصفت به
[ ص: 273 ] نفسك غير لائق بك ، وأنا أنفيه عنك بلا مستند منك ، ولا من رسولك ، وآتيك بدله بالوصف اللائق بك .
فاليد مثلا التي وصفت بها نفسك لا تليق بك لدلالتها على التشبيه بالجارحة ، وأنا أنفيها عنك نفيا باتا ، وأبدلها لك بوصف لائق بك ، وهو النعمة أو القدرة مثلا أو الجود .
سبحانك هذا بهتان عظيم .
فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور .
ومن الغريب أن بعض الجاحدين لصفات الله المئولين لها بمعان لم ترد عن الله ، ولا عن رسوله يؤمنون فيها ببعض الكتاب دون بعض .
فيقرون بأن الصفات السبع التي تشتق منها أوصاف ثابتة لله مع التنزيه ، ونعني بها القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام ; لأنها يشتق منها قادر حي عليم إلخ ، وكذلك في بعض الصفات الجامعة كالعظمة والكبرياء والملك والجلال مثلا ; لأنها يشتق منها العظيم المتكبر والجليل والملك ، وهكذا يجحدون كل صفة ثبتت في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لم يشتق منها غيرها كصفة اليد والوجه ونحو ذلك ، ولا شك أن هذا التفريق بين صفات الله التي أثبتها لنفسه ، أو أثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا وجه له البتة بوجه من الوجوه .
ولم يرد عن الله ، ولا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - الإذن في الإيمان ببعض صفاته وجحد بعضها وتأويله ; لأنها لا يشتق منها .
وهل يتصور عاقل أن يكون عدم الاشتقاق مسوغا لجحد ما وصف الله به نفسه ؟
ولا شك عند كل مسلم راجع عقله ، أن عدم الاشتقاق لا يرد به كلام الله فيما أثنى به على نفسه ، ولا كلام رسوله فيما وصف به ربه .
والسبب الموجب للإيمان إيجابا حتما كليا هو كونه من عند الله ، وهذا السبب هو الذي علم الراسخون في العلم أنه الموجب للإيمان بكل ما جاء عن الله ، سواء استأثر الله
[ ص: 274 ] بعلمه كالمتشابه ، أو كان مما يعلمه الراسخون في العلم ، كما قال الله عنهم :
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ 3 \ 7 ] .
فلا شك أن قوله تعالى :
لما خلقت بيدي من عند ربنا ، وقوله تعالى :
والله على كل شيء قدير [ 2 \ 284 ] من عند ربنا أيضا فيجب علينا الإيمان بالجميع ; لأنه كله من عند ربنا .
أما الذي يفرق بينه ، وهو عالم بأن كله من عند ربه ، بأن هذا يشتق منه ، وهذا لا يشتق منه فقد آمن ببعض الكتاب دون بعض .
والمقصود أن كل ما جاء من عند الله يجب الإيمان به ، سواء كان من المتشابه ، أو من غير المتشابه ، وسواء كان يشتق منه أو لا .
ومعلوم أن
مالكا - رحمه الله - سئل كيف استوى ؟ فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب .
وما يزعمه بعضهم من أن القدرة والإرادة مثلا ونحوهما ليست كاليد ، والوجه ، بدعوى أن القدرة والإرادة مثلا ظهرت آثارهما في العالم العلوي والسفلي ، بخلاف غيرهما كصفة اليد ونحوها فهو من أعظم الباطل .
ومما يوضح ذلك أن الذي يقوله هو وأبوه وجده من آثار صفة اليد التي خلق الله بها نبيه آدم .
ونحن نرجو أن يغفر الله تعالى للذين ماتوا على هذا الاعتقاد ; لأنهم لا يقصدون تشبيه الله بخلقه ، وإنما يحاولون تنزيهه عن مشابهة خلقه .
فقصدهم حسن ، ولكن طريقهم إلى ذلك القصد سيئة .
وإنما نشأ لهم ذلك السوء بسبب أنهم ظنوا لفظ الصفة التي مدح الله بها نفسه يدل ظاهره على مشابهة صفة الخلق فنفوا الصفة التي ظنوا أنها لا تليق قصدا منهم لتنزيه الله ، وأولوها بمعنى آخر يقتضي التنزيه في ظنهم فهم كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله : رام نفعا فضر من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقا ونحن نرجو أن يغفر الله لهم خطأهم ، وأن يكونوا داخلين في قوله تعالى :
[ ص: 275 ] وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما [ 33 \ 5 ] .
وخطؤهم المذكور لا شك فيه ، ولو وفقهم الله لتطهير قلوبهم من التشبيه أولا ، وجزموا بأن ظاهر صفة الخالق هو التنزيه عن مشابهة صفة المخلوق ، لسلموا مما وقعوا فيه .
ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عالم كل العلم ، بأن الظاهر المتبادر ، مما مدح الله به نفسه في آيات الصفات هو التنزيه التام عن صفات الخلق ، ولو كان يخطر في ذهنه أن ظاهره لا يليق ; لأنه تشبيه بصفات الخلق ، لبادر كل المبادرة إلى بيان ذلك ; لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه ، ولا سيما في العقائد ، ولا سيما فيما ظاهره الكفر والتشبيه .
فسكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيان هذا يدل على أن ما زعمه المئولون لا أساس له كما ترى .
فإن قيل : إن هذا القرآن العظيم نزل بلسان عربي مبين ، والعرب لا تعرف في لغتها كيفية لليد مثلا ، إلا كيفية المعاني المعروفة عندها كالجارحة ، وغيرها من معاني اليد المعروفة في اللغة ، فبينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم .
فالجواب من وجهين :
الوجه الأول : أن العرب لا تدرك كيفيات صفات الله من لغتها ، لشدة منافاة صفة الله لصفة الخلق .
والعرب لا تعرف عقولهم كيفيات إلا لصفات الخلق ، فلا تعرف العرب كيفية للسمع والبصر ، إلا هذه المشاهدة في حاسة الأذن والعين ، أما سمع لا يقوم بأذن ، وبصر لا يقوم بحدقة ، فهذا لا يعرفون له كيفية البتة .
فلا فرق بين السمع والبصر ، وبين اليد والاستواء ، فالذي تعرف كيفيته العرب من لغتها من جميع ذلك هو المشاهد في المخلوقات .
[ ص: 276 ] وأما الذي اتصف الله به من ذلك ، فلا تعرف له العرب كيفية ، ولا حدا لمخالفة صفاته لصفات الخلق ، إلا أنهم يعرفون من لغتهم أصل المعنى ، كما قال الإمام
مالك رحمه الله : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
كما يعرفون من لغتهم أن بين الخالق والمخلوق ، والرازق والمرزوق ، والمحيي والمحيا ، والمميت والممات - فوارق عظيمة لا حد لها تستلزم المخالفة التامة ، بين صفات الخالق والمخلوق .
الوجه الثاني : أن نقول لمن قال : بينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم ، من كونها صفة كمال وجلال ، منزهة عن مشابهة جارحة المخلوق .
هل عرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة باليد ، فلا بد أن يقول : لا . فإن قال ذلك .
قلنا : معرفة كيفية الصفات تتوقف على معرفة كيفية الذات .
فالذات والصفات من باب واحد .
فكما أن ذاته - جل وعلا - تخالف جميع الذوات ، فإن صفاته تخالف جميع الصفات .
ومعلوم أن الصفات تختلف وتتباين باختلاف موصوفاتها .
ألا ترى مثلا أن لفظة رأس كلمة واحدة ؟
إن أضفتها إلى الإنسان ، فقلت : رأس الإنسان ، وإلى الوادي ، فقلت : رأس الوادي ، وإلى المال ، فقلت : رأس المال ، وإلى الجبل ، فقلت : رأس الجبل .
فإن كلمة الرأس اختلفت معانيها ، وتباينت تباينا شديدا بحسب اختلاف إضافتها ، مع أنها في مخلوقات حقيرة .
[ ص: 277 ] فما بالك بما أضيف من الصفات إلى الله ، وما أضيف منها إلى خلقه ، فإنه يتباين كتباين الخالق والمخلوق ، كما لا يخفى .
فاتضح بما ذكر أن الشرط في قول
المقرئ في إضاءته :
والنص إن أوهم غير اللائق
شرط مفقود قطعا ; لأن نصوص الوحي الواردة في صفات الله لا تدل ظواهرها البتة إلا على تنزيه الله ، ومخالفته لخلقه في الذات والصفات والأفعال .
فكل المسلمين الذين يراجعون عقولهم ، لا يشك أحد منهم في أن الظاهر المتبادر السابق إلى ذهن المسلم هو مخالفة الله لخلقه ، كما نص عليه بقوله :
ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] ، وقوله :
ولم يكن له كفوا أحد [ 112 \ 4 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، وبذلك تعلم أن الإجماع الذي بناه على ذلك في قوله :
فاصرفه عن ظاهره إجماعا
إجماع مفقود أصلا ، ولا وجود له البتة ; لأنه مبني على شرط مفقود لا وجود له البتة .
فالإجماع المعدوم المزعوم لم يرد في كتاب الله ، ولا في سنة رسوله ، ولم يقله أحد من أصحاب رسول الله ، ولا من تابعيهم ، ولم يقله أحد من الأئمة الأربعة ، ولا من فقهاء الأمصار المعروفين .
وإنما لم يقولوا بذلك ; لأنهم يعلمون أن ظواهر نصوص الوحي لا تدل إلا على تنزيه الله عن مشابهة خلقه ، وهذا الظاهر الذي هو تنزيه الله لا داعي لصرفها عنه كما ترى .
ولأجل هذا كله قلنا في مقدمة هذا الكتاب المبارك : إن الله تبارك وتعالى موصوف
[ ص: 278 ] بتلك الصفات حقيقة لا مجازا ; لأنا نعتقد اعتقادا جازما لا يتطرق إليه شك أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها ، لا تدل البتة إلا على التنزيه عن مشابهة الخلق واتصافه تعالى بالكمال والجلال .
وإثبات التنزيه والكمال والجلال لله حقيقة لا مجازا - لا ينكره مسلم .
ومما يدعو إلى التصريح بلفظ الحقيقة ، ونفي المجاز ، كثرة الجاهلين الزاعمين أن تلك الصفات لا حقائق لها ، وأنها كلها مجازات .
وجعلوا ذلك طريقا إلى نفيها ; لأن المجاز يجوز نفيه ، والحقيقة لا يجوز نفيها .
فقالوا مثلا : اليد مجاز يراد به القدرة والنعمة أو الجود ، فنفوا صفة اليد ، لأنها مجاز .
وقالوا :
على العرش استوى مجاز فنفوا الاستواء ; لأنه مجاز .
وقالوا : معنى " استوى " استولى ، وشبهوا استيلاءه باستيلاء
nindex.php?page=showalam&ids=15539بشر بن مروان على
العراق .
ولو تدبروا كتاب الله لمنعهم ذلك من تبديل الاستواء بالاستيلاء ، وتبديل اليد بالقدرة أو النعمة ; لأن الله - جل وعلا - يقول في محكم كتابه في سورة البقرة :
فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون [ 2 \ 59 ] ، ويقول في الأعراف
فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون [ 7 \ 162 ] ، فالقول الذي قاله الله لهم هو قوله " حطة " وهي فعلة من الحط بمعنى الوضع خبر مبتدأ محذوف ، أي دعاؤنا ومسألتنا لك حطة لذنوبنا ، أي حط ووضع لها عنا فهي بمعنى طلب المغفرة ، وفي بعض روايات الحديث في شأنهم أنهم بدلوا هذا القول بأن زادوا نونا فقالوا : حنطة ، وهي القمح .
وأهل التأويل قيل لهم : على العرش استوى ، فزادوا لاما ، فقالوا : استولى .
[ ص: 279 ] وهذه اللام التي زادوها أشبه شيء بالنون التي زادها
اليهود في قوله تعالى :
وقولوا حطة . ويقول الله - جل وعلا - في منع تبديل القرآن بغيره :
قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم .
ولا شك أن من بدل استوى باستولى مثلا لم يتبع ما أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم .
فعليه أن يجتنب التبديل ويخاف العذاب العظيم ، الذي خافه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو عصى الله فبدل قرآنا بغيره المذكور في قوله :
إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم .
واليهود لم ينكروا أن اللفظ الذي قاله الله لهم : هو لفظ حطة ولكنهم حرفوه بالزيادة المذكورة .
وأهل هذه المقالة لم ينكروا أن كلمة القرآن هي استوى ، ولكن حرفوها وقالوا في معناها : استولى وإنما أبدلوها بها ; لأنها أصلح في زعمهم من لفظ كلمة القرآن ، لأن كلمة القرآن توهم غير اللائق ، وكلمة استولى في زعمهم هي المنزهة اللائقة بالله مع أنه لا يعقل تشبيه أشنع من تشبيه استيلاء الله على عرشه المزعوم ، باستيلاء بشر على
العراق .
وهل كان أحد يغالب الله على عرشه حتى غلبه على العرش واستولى عليه ؟
وهل يوجد شيء إلا والله مستول عليه ، فالله مستول على كل شيء .
وهل يجوز أن يقال إنه تعالى استوى على كل شيء غير العرش ؟
فافهم .
[ ص: 280 ] وعلى كل حال ، فإن المئول زعم أن الاستواء يوهم غير اللائق بالله لاستلزامه مشابهة استواء الخلق ، وجاء بدله بالاستيلاء ، لأنه هو اللائق به في زعمه ، ولم ينتبه .
لأن تشبيه استيلاء الله على عرشه باستيلاء
nindex.php?page=showalam&ids=15539بشر بن مروان على
العراق هو أفظع أنواع التشبيه ، وليس بلائق قطعا ، إلا أنه يقول : إن الاستيلاء المزعوم منزه عن مشابهة استيلاء الخلق ، مع أنه ضرب له المثل باستيلاء بشر على
العراق والله يقول :
فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون [ 16 \ 74 ] .
ونحن نقول : أيها المئول هذا التأويل ، نحن نسألك إذا علمت أنه لا بد من تنزيه أحد اللفظين أعني لفظ استوى الذي أنزل الله به الملك على النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآنا يتلى ، كل حرف منه عشر حسنات ، ومن أنكر أنه من كتاب الله كفر .
ولفظة استولى التي جاء بها قوم من تلقاء أنفسهم من غير استناد إلى نص من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من السلف .
فأي الكلمتين أحق بالتنزيه في رأيك . الأحق بالتنزيه كلمة القرآن المنزلة من الله على رسوله ، أم كلمتكم التي جئتم بها من تلقاء أنفسكم ، من غير مستند أصلا ؟
ونحن لا يخفى علينا الجواب الصحيح ، عن هذا السؤال إن كنت لا تعرفه .
واعلم أن ما ذكرنا من أن ما وصف الله به نفسه من الصفات ، فهو موصوف به حقيقة لا مجازا ، على الوجه اللائق بكماله وجلاله .
وأنه لا فرق البتة بين صفة يشتق منها وصف ، كالسمع والبصر والحياة .
وبين صفة لا يشتق منها كالوجه واليد .
وأن
تأويل الصفات كتأويل الاستواء بالاستيلاء ، لا يجوز ولا يصح .
هو معتقد
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبي الحسن الأشعري رحمه الله .
وهو معتقد عامة السلف ، وهو الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
فمن ادعى على
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبي الحسن الأشعري أنه يئول صفة من الصفات ، كالوجه واليد والاستواء ، ونحو ذلك فقد افترى عليه افتراء عظيما .
[ ص: 281 ] بل
الأشعري رحمه الله مصرح في كتبه العظيمة التي صنفها بعد رجوعه عن الاعتزال ، ( كالموجز ) ، ( ومقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ) ، ( والإبانة عن أصول الديانة ) أن معتقده الذي يدين الله به هو ما كان عليه السلف الصالح من الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإثبات ذلك كله من غير كيف ولا تشبيه ولا تعطيل .
وأن ذلك لا يصح تأويله ، ولا القول بالمجاز فيه .
وأن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو مذهب
المعتزلة ومن ضاهاهم .
وهو أعلم الناس بأقوال
المعتزلة ، لأنه كان أعظم إمام في مذهبهم ، قبل أن يهديه الله إلى الحق ، وسنذكر لك هنا بعض نصوص
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبي الحسن الأشعري رحمه الله لتعلم صحة ما ذكرنا عنه .
قال رحمه الله ( في كتاب الإبانة عن أصول الديانة ) الذي قال غير واحد أنه آخر كتاب صنفه ، ما نصه :
فإن قال لنا قائل : قد أنكرتم قول
المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة ،
والمرجئة ، فعرفونا قولكم الذي به تقولون ، وديانتكم التي بها تدينون ، قيل له :
قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها ، التمسك بكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث .
ونحن بذلك معتصمون ، وبما كان يقول به
nindex.php?page=showalam&ids=12251أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ، ولمن خالف قوله مجانبون .
لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين وشك الشاكين . فرحمة الله عليه من إمام مقدم وخليل معظم مفخم ، وعلى جميع أئمة المسلمين .
وجملة قولنا : أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله ، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرد من ذلك شيئا .
وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو فرد صمد ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن
[ ص: 282 ] محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، والساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور .
وأن الله استوى على عرشه كما قال :
الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، وأن له وجها كما قال :
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 55 \ 27 ] ، وأن له يدين بلا كيف كما قال :
خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، وكما قال :
بل يداه مبسوطتان [ 5 \ 64 ] ، وأن له عينان بلا كيف كما قال :
تجري بأعيننا [ 54 \ 14 ] . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
وبه تعلم أن من يفتري على
الأشعري - أنه من المئولين المدعين أن ظاهر آيات الصفات وأحاديثها لا يليق بالله - كاذب عليه كذبا شنيعا .
وقال الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة أيضا في
إثبات الاستواء لله تعالى ما نصه :
إن قال قائل : ما تقولون في الاستواء ؟ قيل له : نقول : إن الله عز وجل مستو على عرشه كما قال :
الرحمن على العرش استوى . وقد قال الله عز وجل :
إليه يصعد الكلم الطيب [ 35 \ 10 ] ، وقد قال :
بل رفعه الله إليه [ 4 \ 158 ] ، وقال عز وجل :
يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه [ 32 \ 5 ] ، وقال حكاية عن فرعون :
ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا [ 40 \ 36 ] .
فكذب فرعون نبي الله
موسى عليه السلام في قوله : ( إن الله عز وجل فوق السماوات ) . وقال عز وجل :
أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض .
فالسماوات فوقها العرش ، فلما كان العرش فوق السماوات قال :
أأمنتم من في السماء لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات ، وكل ما علا فهو سماء ، فالعرش أعلى السماوات . هذا لفظ
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبي الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة المذكور .
وقد أطال رحمه الله في الكلام بذكر الأدلة القرآنية في إثبات صفة الاستواء ، وصفة العلو لله - جل وعلا .
ومن جملة كلامه المشار إليه ما نصه :
[ ص: 283 ] وقد قال قائلون من
المعتزلة والجهمية والحرورية : إن قول الله عز وجل :
الرحمن على العرش استوى أنه استولى وملك وقهر ، وأن الله عز وجل في كل مكان . وجحدوا أن يكون الله عز وجل على عرشه كما قال أهل الحق ، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة .
ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض ، فالله سبحانه قادر عليها وعلى الحشوش ، وعلى كل ما في العالم .
فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأفراد ، لأنه قادر على الأشياء مستول عليها .
وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول :
إن الله عز وجل مستو على الحشوش والأخلية ، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها .
ووجب أن يكون معناه استواء يختص العرش دون الأشياء كلها .
وزعمت
المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله عز وجل في كل مكان فلزمهم أنه في بطن
مريم وفي الحشوش والأخلية .
وهذا خلاف الدين - تعالى الله عن قولهم . ا هـ .
هذا لفظ
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبي الحسن الأشعري رحمه الله في آخر مصنفاته ، وهو كتاب الإبانة عن أصول الديانة .
وتراه صرح رحمه الله بأن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو قول
المعتزلة والجهمية والحرورية لا قول أحد من أهل السنة وأقام البراهين الواضحة على بطلان ذلك .
فليعلم مئولو الاستواء بالاستيلاء أن سلفه في ذلك
المعتزلة والجهمية والحرورية ، لا
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبو الحسن الأشعري رحمه الله ولا أحد من السلف .
وقد أوضحنا في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى :
وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم الآية [ 6 \ 3 ] أن قول
الجهمية ومن تبعهم : إن الله في كل مكان - قول باطل .
[ ص: 284 ] لأن جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأقل وأصغر ، من أن يسع شيء منها خالق السماوات والأرض ، الذي هو أعظم وأكبر من كل شيء ، وهو محيط بكل شيء ، ولا يحيط به شيء .
فانظر إيضاح ذلك في الأنعام .
واعلم أن ما يزعمه كثير من الجهلة ، من أن ما في القرآن العظيم من صفة الاستواء والعلو والفوقية يستلزم الجهة ، وأن ذلك محال على الله ، وأنه يجب نفي الاستواء والعلو والفوقية ، وتأويلها بما لا دليل عليه من المعاني كله باطل .
وسببه سوء الظن بالله وبكتابه ، وعلى كل حال فمدعي لزوم الجهة لظواهر نصوص القرآن العظيم . واستلزام ذلك للنقص الموجب للتأويل يقال له :
ما مرادك بالجهة ؟
إن كنت تريد بالجهة مكانا موجودا انحصر فيه الله ، فهذا ليس بظاهر القرآن ، ولم يقله أحد من المسلمين .
وإن كنت تريد بالجهة العدم المحض .
فالعدم عبارة عن لا شيء .
فميز أولا بين الشيء الموجود ، وبين لا شيء .
وقد قال أيضا
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة أيضا ما نصه :
فإن سئلنا : أتقولون : إن لله يدين ؟ قيل : نقول ذلك ، وقد دل عليه قوله عز وجل :
يد الله فوق أيديهم [ 48 \ 10 ] ، وقوله عز وجل :
لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] .
وأطال رحمه الله الكلام في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على
إثبات صفة اليدين لله .
ومن جملة ما قال ما نصه :
ويقال لهم : لم أنكرتم أن يكون الله عز وجل عنى بقوله : يدي يدين ليستا نعمتين .
فإن قالوا : لأن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة .
[ ص: 285 ] قيل لهم : ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة ؟
فإن رجوعنا إلى شاهدنا ، وإلى ما نجده فيما بيننا من الخلق ؟
فقالوا : اليد إذا لم تكن نعمة في الشاهد لم تكن إلا جارحة .
قيل لهم : إن عملتم على الشاهد وقضيتم به على الله عز وجل فكذلك لم نجد حيا من الخلق إلا جسما لحما ودما ، فاقضوا بذلك على الله عز وجل .
وإلا فأنتم لقولكم متأولون ولاعتلالكم ناقضون .
وإن أثبتم حيا لا كالأحياء منا .
فلم أنكرتم أن تكون اليدان اللتان أخبر الله عز وجل عنهما ، يدين ليستا نعمتين ، ولا جارحتين ، ولا كالأيدي ؟
وكذلك يقال لهم :
لم تجدوا مدبرا حكيما إلا إنسانا ، ثم أثبتم أن للدنيا مدبرا حكيما ، ليس كالإنسان ، وخالفتم الشاهد ونقضتم اعتلالكم .
فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ، من أجل أن ذلك خلاف الشاهد انتهى محل الغرض منه بلفظه .
وبه تعلم أن
الأشعري رحمه الله يعتقد أن الصفات التي أنكرها المئولون كصفة اليد ، من جملة صفات المعاني كالحياة ونحوها ، وأنه لا فرق البتة بين صفة اليد وصفة الحياة فما اتصف الله به من جميع ذلك فهو منزه عن مشابهة ما اتصف به الخلق منه .
واللازم لمن شبه في بعض الصفات ونزه في بعضها أن يشبه في جميعها أو ينزه في جميعها ، كما قاله
الأشعري .
أما ادعاء ظهور التشبيه في بعضها دون بعض ، فلا وجه له بحال من الأحوال ، لأن الموصوف بها واحد ، وهو منزه عن مشابهة صفات خلقه .
ومن جملة كلام
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبي الحسن الأشعري رحمه الله المشار إليها آنفا في إثبات الصفات ما نصه :
[ ص: 286 ] فإن قال قائل : لم أنكرتم أن يكون قوله :
مما عملت أيدينا [ 36 \ 71 ] ، وقوله :
لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] على المجاز ؟ .
قيل له : حكم كلام الله عز وجل أن يكون على ظاهره وحقيقته ، ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا لحجة .
ألا ترون أنه إذا كان ظاهر الكلام العموم ، فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص ، فليس هو على حقيقة الظاهر ؟
وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة ؟
كذلك قول الله عز وجل :
لما خلقت بيدي على ظاهره وحقيقته من إثبات اليدين ، ولا يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا إلا بحجة .
ولو جاز ذلك لمدع أن يدعي أن ما ظاهره العموم ، فهو على الخصوص ، وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة .
وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادعيتموه أنه مجاز بغير حجة .
بل واجب أن يكون قوله :
لما خلقت بيدي إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة غير نعمتين إذا كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم : فعلت بيدي وهو يعني النعمتين . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
وفيه تصريح
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبي الحسن الأشعري رحمه الله ، بأن صفات الله كصفة اليد ثابتة له حقيقة لا مجازا ، وأن المدعين أنها مجاز هم خصومه وهو خصمهم كما ترى .
وإنما قال رحمه الله : إنه تعالى متصف بها حقيقة لا مجازا ، لأنه لا يشك في أن ظاهر صفة الله هو مخالفة صفة الخلق ، وتنزيهها عن مشابهتها كما هو شأن السلف الصالح كلهم .
فإثبات الحقيقة ونفي المجاز في صفات الله هو اعتقاد كل مسلم طاهر القلب من أقذار التشبيه ، لأنه لا يسبق إلى ذهنه من اللفظ الدال على الصفة كصفة اليد والوجه إلا أنها صفة كمال منزهة عن مشابهة صفات الخلق .
[ ص: 287 ] فلا يخطر في ذهنه التشبيه الذي هو سبب نفي الصفة وتأويلها بمعنى لا أصل له .