المسألة الثانية في الكلام على
الاجتهاد .
اعلم أولا أنا قدمنا بطلان قول الظاهرية بمنع الاجتهاد مطلقا ، وأن من الاجتهاد ما هو صحيح موافق للشرع الكريم ، وبسطنا أدلة ذلك بإيضاح في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى :
وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية [ 21 \ 78 ] .
وبينا طرفا منه في سورة
بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :
ولا تقف ما ليس لك به علم [ 17 \ 36 ] ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
وغرضنا في هذه المسألة هو أن نبين أن تدبر القرآن وانتفاع متدبره بالعمل بما علم منه الذي دل عليه قوله تعالى في هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها التي هي قوله تعالى :
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها لا يتوقف على تحصيل الاجتهاد المطلق بشروطه المعروفة عند متأخري الأصوليين .
اعلم أولا : أن المتأخرين من أهل الأصول الذين يقولون بمنع العمل بالكتاب والسنة مطلقا إلا للمجتهدين ، يقولون : إن
شروط الاجتهاد هي كون المجتهد بالغا ، عاقلا شديد الفهم .
طبعا عارفا بالدليل العقلي ، الذي هو استصحاب العدم الأصلي ، حتى يرد نقل صارف عنه .
عارفا باللغة العربية ، وبالنحو من صرف وبلاغة مع معرفة الحقائق الشرعية والعرفية .
وبعضهم يزيد المحتاج إليه من فن المنطق كشرائط الحدود ، والرسوم ، وشرائط البرهان .
عارفا بالأصول ، عارفا بأدلة الأحكام من الكتاب والسنة .
[ ص: 299 ] ولا يشترط عندهم حفظ النصوص ، بل يكفي عندهم علمه بمداركها في المصحف وكتب الحديث .
عارفا بمواقع الإجماع والخلاف .
عارفا بشروط المتواتر ، والآحاد والصحيح والضعيف .
عارفا بالناسخ والمنسوخ .
عارفا بأسباب النزول .
عارفا بأحوال الصحابة ، وأحوال رواة الحديث ، اختلفوا في شرط عدم إنكاره للقياس . ا هـ .
ولا يخفى أن مستندهم في اشتراطهم لهذه الشروط ليس نصا من كتاب ولا سنة يصرح بأن هذه الشروط كلها لا يصح دونها عمل بكتاب ولا سنة ، ولا إجماعا دالا على ذلك .
وإنما مستندهم في ذلك هو تحقيق المناط في ظنهم .
وإيضاح ذلك هو أن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين كلها دال على أن العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يشترط له إلا شرط واحد ، وهو العلم بحكم ما يعمل به منهما .
ولا يشترط في العمل بالوحي شرط زائد على العلم بحكمه البتة .
وهذا مما لا يكاد ينازع فيه أحد .
ومراد متأخري الأصوليين بجميع الشروط التي اشترطوها هو تحقيق المناط .
لأن العلم بالوحي لما كان هو مناط العمل به أرادوا أن يحققوا هذا المناط ، أي يبينوا الطرق التي يتحقق بها حصول العلم الذي هو مناط العمل .
فاشترطوا جميع الشروط المذكورة ، ظنا منهم أنه لا يمكن تحقيق حصول العلم بالوحي دونها .
وهذا الظن فيه نظر ; لأن كل إنسان له فهم إذا أراد العمل بنص من كتاب أو سنة فلا
[ ص: 300 ] يمتنع عليه ، ولا يستحيل أن يتعلم معناه ويبحث عنه ، هل هو منسوخ أو مخصص أو مقيد حتى يعلم ذلك فيعمل به .
وسؤال أهل العلم : هل لهذا النص ناسخ أو مخصص أو مقيد مثلا . وإخبارهم بذلك ليس من نوع التقليد ، بل هو من نوع الاتباع .
وسنبين إن شاء الله الفرق بين التقليد والاتباع في مسألة التقليد الآتية .
والحاصل أن نصوص الكتاب والسنة التي لا تحصى واردة
بإلزام جميع المكلفين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
وليس في شيء منها التخصيص بمن حصل شروط الاجتهاد المذكورة . وسنذكر طرفا منها لنبين أنه لا يجوز تخصيصها بتحصيل الشروط المذكورة .
قال الله تعالى :
اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون [ 7 \ 3 ] ، والمراد بـ
ما أنزل إليكم هو القرآن والسنة المبينة له لا آراء الرجال .
وقال تعالى :
وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا [ 4 \ 61 ] .
فدلت هذه الآية الكريمة أن من دعي إلى العمل بالقرآن والسنة وصد عن ذلك - أنه من جملة المنافقين ; لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب .
وقال تعالى :
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [ 4 \ 59 ] ، والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - هو الرد إلى سنته .
وتعليقه الإيمان في قوله :
إن كنتم تؤمنون بالله على رد التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله ، يفهم منه أن من يرد التنازع إلى غيرهما لم يكن يؤمن بالله .
وقال تعالى :
واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون [ 39 \ 55 ] ، ولا شك أن القرآن أحسن ما أنزل إلينا من ربنا ، والسنة
[ ص: 301 ] مبينة له ، وقد هدد من لم يتبع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا بقوله :
من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون .
وقال تعالى :
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب [ 39 \ 18 ] ، ولا شك أن كتاب الله وسنة رسوله أحسن من آراء الرجال .
وقال تعالى :
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب [ 59 \ 7 ] ، وقوله :
إن الله شديد العقاب فيه تهديد شديد لمن لم يعمل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا سيما إن كان يظن أن أقوال الرجال تكفي عنها .
وقال تعالى :
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر [ 33 \ 21 ] ، والأسوة : الاقتداء ، فيلزم المسلم أن يجعل قدوته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك باتباع سنته .
وقال تعالى :
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ 4 \ 65 ] ، وقد أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما اختلفوا فيه .
وقال تعالى :
فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ 28 \ 50 ] .
والاستجابة له - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته هي الرجوع إلى سنته - صلى الله عليه وسلم - وهي مبينة لكتاب الله .
وقد جاء في القرآن العظيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتبع شيئا إلا الوحي ، وأن من أطاعه - صلى الله عليه وسلم - فقد أطاع الله .
قال تعالى في سورة
يونس :
قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] .
وقال تعالى في الأنعام :
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي [ 6 \ 50 ] .
وقال تعالى في الأحقاف :
قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين [ 46 \ 9 ] .
[ ص: 302 ] وقال تعالى في الأنبياء :
قل إنما أنذركم بالوحي الآية [ 21 \ 45 ] ، فحصر الإنذار في الوحي دون غيره .
وقال تعالى :
قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي الآية [ 34 \ 50 ] ، فبين أن الاهتداء إنما هو بالوحي ، والآيات بمثل هذا كثيرة .
وإذا علمت منها أن طريقه - صلى الله عليه وسلم - هي اتباع الوحي ، فاعلم أن القرآن دل على أن من أطاعه - صلى الله عليه وسلم - فهو مطيع لله كما قال تعالى :
من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] ، وقال تعالى :
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ 3 \ 31 ] .
ولم يضمن الله لأحد ألا يكون ضالا في الدنيا ولا شقيا في الآخرة إلا لمتبعي الوحي وحده .
قال تعالى في طه :
فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى [ 20 \ 123 ] ، وقد دلت آية طه هذه على انتفاء الضلال والشقاوة عن متبعي الوحي .
ودلت آية البقرة على انتفاء الخوف والحزن عنه ، وذلك في قوله تعالى :
فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 38 ] .
ولا شك أن انتفاء الضلال والشقاوة والخوف والحزن عن متبعي الوحي المصرح به في القرآن ، لا يتحقق فيمن يقلد عالما ليس بمعصوم ، لا يدري أصواب ما قلده فيه أم خطأ . في حال كونه معرضا عن التدبر في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
ولا سيما إن كان يظن أن آراء العالم الذي قلده ، كافية مغنية ، عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
والآيات القرآنية الدالة على
لزوم اتباع الوحي ، والعمل به ، لا تكاد تحصى ، وكذلك الأحاديث النبوية الدالة على لزوم العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا تكاد تحصى ; لأن طاعة الرسول طاعة الله .
وقد قال تعالى :
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب [ 59 \ 7 ] ،
[ ص: 303 ] وقال تعالى :
وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون [ 3 \ 132 ] .
وقال تعالى :
قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [ 3 \ 32 ] .
وقال :
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم [ 4 \ 69 ] .
وقال تعالى :
ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما [ 33 \ 71 ] .
وقال تعالى :
من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا [ 4 \ 80 ] .
وقال تعالى :
ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [ 4 \ 59 ] .
وقال تعالى :
تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [ 4 \ 13 - 14 ] .
وقال تعالى :
وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين [ 5 \ 92 ] .
وقال تعالى :
وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [ 8 \ 1 ] .
وقال تعالى :
قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين [ 24 \ 54 ] .
وقال :
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون [ 24 \ 56 ] .
وقال تعالى :
ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم [ 47 \ 33 ] .
[ ص: 304 ] وقال تعالى :
إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [ 24 \ 51 - 52 ] .
وقال تعالى :
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] .
وقال تعالى :
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله [ 9 \ 71 ] .
ولا شك عند أحد من أهل العلم أن طاعة الله ورسوله المذكورة في هذه الآيات ونحوها من نصوص الوحي ، محصورة في العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
فنصوص القرآن والسنة كلها دالة على لزوم تدبر الوحي ، وتفهمه وتعلمه والعمل به ، فتخصيص تلك النصوص كلها ، بدعوى أن تدبر الوحي وتفهمه والعمل به : لا يصح شيء منه إلا لخصوص المجتهدين الجامعين لشروط الاجتهاد المعروفة عند متأخري الأصوليين - يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه ، ولا دليل على ذلك البتة .
بل أدلة الكتاب والسنة دالة على وجوب تدبر الوحي وتفهمه وتعلمه والعمل بكل ما علم منه ، علما صحيحا قليلا كان أو كثيرا .
وهذه المسألة الثانية يتداخل بعض الكلام فيها ، مع بعض الكلام في المسألة الأولى ، فهما شبه المسألة الواحدة .