التنبيه الخامس
اعلم أنه لا يخفى علينا أن المقلدين التقليد الأعمى المذكور ، يقولون :
هذا الذي تدعوننا إليه وتأمروننا به من العمل بالكتاب والسنة ، وتقديمهما على آراء
[ ص: 354 ] الرجال من التكليف بما لا يطاق ; لأنا لا قدرة لنا على معرفة الكتاب والسنة حتى نعمل بهما .
ولا يمكننا معرفة شيء من الشرع إلا عن طريق الإمام الذي نقلده ; لأنا لم نتعلم نحن ولا آباؤنا شيئا غير ذلك .
فإذا لم نقلد إمامنا بقينا في حيرة لا نعلم شيئا من أحكام عباداتنا ولا معاملاتنا ، وتعطلت بيننا الأحكام إذ لا نعرف قضاء ولا فتوى ولا غير ذلك من الأحكام إلا عن طريق مذهب إمامنا ; لأن أحكامه مدونة عندنا وهي التي نتعلمها ونتدارسها دون غيرها من الكتاب أو السنة وأقوال الصحابة ومذاهب الأئمة الآخرين .
ونحن نقول : والله لقد ضيقتم واسعا . وادعيتم العجز ، وعدم القدرة في أمر سهل ، ولا شك أن الأحوال الراهنة للمقلدين
التقليد الأعمى للمذاهب المدونة تقتضي صعوبة شديدة جدا في طريق التحول من التقليد الأعمى إلى الاستضاءة بنور الوحي .
وذلك إنما نشأ من شدة التفريط في تعلم الكتاب والسنة والإعراض عنهما إعراضا كليا يتوارثه الأبناء عن الآباء ، والآباء عن الأجداد ، فالداء المستحكم من مئات السنين لا بد لعلاجه من زمن طويل .
ونحن لا نقول : إن الجاهل بالكتاب والسنة يعمل بهما باجتهاده ، بل نعوذ بالله من أن نقول ذلك .
ولكنا نقول : إن
الكتاب والسنة يجب تعلمهما ، ولا يجوز الإعراض عنهما وأن كل ما علمه المكلف منهما علما صحيحا ناشئا عن تعلم صحيح وجب عليه العمل به ، فالبلية العظمى إنما نشأت من توارث الإعراض عنهما إعراضا كليا اكتفاء عنهما بغيرهما ، وهذا من أعظم المنكر وأشنع الباطل .
فالذي ندعو إليه هو المبادرة بالرجوع إليهما بتعلمهما أولا ثم العمل بهما والتوبة إلى الله من الإعراض عنهما .
ودعوى أن تعلمهما غير مقدور عليه ، لا يشك في بطلانها عاقل ، ونعيذ أنفسنا وإخواننا بالله أن يدعوا على أنفسهم أن على قلوبهم أكنة ، وفي آذانهم وقرا يمنعهم من فهم كتاب الله ; لأن ذلك قول الكفار لا قول المسلمين ، قال الله تعالى :
[ ص: 355 ] حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون [ 41 \ 1 - 5 ] .
فاحذر يا أخي وارحم نفسك أن تقول مثل قول هؤلاء الكفرة وكنت تسمع ربك يقول :
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ 54 \ 17 ] ، ويقول :
فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون [ 44 \ 58 ] .
ويقول
كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] .
فلا تخرج نفسك من عموم أولي الألباب الذين هم أصحاب العقول ; لأنك إن فعلت ذلك اعترفت على نفسك أنك لست من جملة العقلاء .
وعلى كل حال فلا يخلو المقلدون التقليد الأعمى ، من أحد أمرين :
أحدهما : ألا يلتفتوا إلى نصح ناصح ، بل يستمرون على تقليدهم الأعمى ، والإعراض عن نور الوحي عمدا ، وتقديم رأي الرجال عليه .
وهذا القسم منهم لا نعلم له عذرا في كتاب الله ولا سنة رسوله ، ولا في قول أحد من الصحابة ، ولا أحد من القرون المشهود لهم بالخير ; لأن حقيقة ما هم عليه هو الإعراض عما أنزل الله عمدا مع سهولة تعلم القدر المحتاج إليه منه ، والاستغناء عنه بأقوال الأئمة .
ومن كان هذا شأنه وهو تام العقل والفهم قادر على التعلم فعدم عذره كما ترى .
الأمر الثاني : هو أن يندم المقلدون على ما كانوا عليه من التفريط في تعلم الوحي ، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
ويبادروا إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة ويشرعوا في ذلك بجد . تائبين مما كانوا عليه من التفريط قبل ذلك ، وهذا القسم على هدى من الله ، وهو الذي ندعو إخواننا إليه .