قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
اختلف العلماء في معنى قوله :
ليعبدون ، فقال بعضهم : المعنى ما خلقتهم إلا ليعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقياء ،
فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق التي هي عبادة الله حاصلة بفعل السعداء منهم كما يدل عليه قوله تعالى :
فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] ، وهذا القول نقله
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم وسفيان .
وغاية ما يلزم على هذا القول أنه أطلق فيها المجموع وأراد بعضهم .
وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ، ومن أوضحها قراءة
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي : " فإن قتلوكم فاقتلوهم " ، من القتل لا من القتال ، وقد بينا هذا في مواضع متعددة ، وذكرنا أن من شواهده العربية قول الشاعر :
فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا من يدي nindex.php?page=showalam&ids=17275ورقاء عن رأس خالد
فتراه نسب الضرب
لبني عبس مع تصريحه أن الضارب الذي نبا بيده السيف عن رأس
خالد يعني ابن جعفر الكلابي ، هو
ورقاء يعني ابن زهير العبسي .
وقد قدمنا في الحجرات أن من ذلك قوله تعالى :
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا [ 49 \ 147 ] ، بدليل قوله :
ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر إلى قوله :
سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم [ 9 \ 99 ] .
وقال بعض العلماء : معنى قوله :
إلا ليعبدون : أي " إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا
[ ص: 445 ] أو كرها " ، لأن
المؤمن يطيع باختياره والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبرا عليه ، وهذا القول رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس واختاره ، ويدل له قوله تعالى :
ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها [ 13 \ 15 ] ، والسجود والعبادة كلاهما خضوع وتذلل لله - جل وعلا - وقد دلت الآية على أن بعضهم يفعل ذلك طوعا وبعضهم يفعله كرها .
وعن
مجاهد أنه قال :
إلا ليعبدون : أي إلا ليعرفوني . واستدل بعضهم لهذا القول بقوله :
ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] ، ونحو ذلك من الآيات وهو كثير في القرآن ، وقد أوضحنا كثرته فيه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
وقال بعض أهل العلم : وهو مروي عن
مجاهد أيضا معنى قوله :
إلا ليعبدون : أي إلا لآمرهم بعبادتي فيعبدني من وفقته منهم لعبادتي دون غيره ، وعلى هذا القول : فإرادة عبادتهم المدلول عليها باللام في قوله :
ليعبدون - إرادة دينية شرعية وهي الملازمة للأمر ، وهي عامة لجميع من أمرتهم الرسل لطاعة الله ، لا إرادة كونية قدرية ، لأنها لو كانت كذلك لعبده جميع الإنس والجن ، والواقع خلاف ذلك بدليل قوله تعالى :
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد إلى آخر السورة .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : التحقيق - إن شاء الله - في معنى هذه الآية الكريمة
إلا ليعبدون ، أي إلا لآمرهم بعبادتي وأبتليهم أي أختبرهم بالتكاليف ، ثم أجازيهم على أعمالهم ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في معنى الآية ، لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله ، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملا ، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم .
قال تعالى في أول سورة هود :
وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء [ 11 \ 7 ] ، ثم بين الحكمة في ذلك فقال :
ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 11 \ 7 ] .
[ ص: 446 ] وقال تعالى في أول سورة الملك :
الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 67 \ 2 ] .
وقال تعالى في أول سورة الكهف :
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 7 ] .
فتصريحه - جل وعلا - في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق ، هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملا ، يفسر قوله :
ليعبدون . وخير ما يفسر به القرآن - القرآن .
ومعلوم أن نتيجة العمل المقصود منه لا تتم إلا بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، ولذا صرح تعالى بأن حكمة خلقهم أولا وبعثهم ثانيا ، هو
جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، وذلك في قوله تعالى في أول يونس :
إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون [ 10 \ 4 ] ، وقوله في النجم :
ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] .
وقد أنكر تعالى على الإنسان حسبانه وظنه أنه يترك سدى ، أي مهملا ، لم يؤمر ولم ينه ، وبين أنه ما نقله من طور إلى طور حتى أوجده إلا ليبعثه بعد الموت أي ويجازيه على عمله ، قال تعالى :
أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى إلى قوله :
أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 36 - 40 ] .
والبراهين على البعث دالة على الجزاء ، وقد نزه تعالى نفسه عن هذا الظن الذي ظنه الكفار به تعالى ، وهو أنه لا يبعث الخلق ولا يجازيهم منكرا ذلك عليهم في قوله :
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 - 116 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى :
ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى [ 46 \ 3 ] .