قوله تعالى : قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أن أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا ، وأن
[ ص: 457 ] المسئول عنهم يقول للسائل :
إنا كنا قبل أي في دار الدنيا
في أهلنا مشفقين أي خائفين من عذاب الله ، ونحن بين أهلنا أحياء "
فمن الله علينا " أي أكرمنا ، وتفضل علينا بسبب الخوف منه في دار الدنيا فهدانا ، ووفقنا في الدنيا ووقانا في الآخرة عذاب السموم ، والسموم النار ولفحها ووهجها ، وأصله الريح الحارة التي تدخل المسام ، والجمع سمائم . ومنه قول
nindex.php?page=showalam&ids=16675عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
أنامل لم تضرب على البهم بالضحى بهن ووجه لم تلحه السمائم
وقد يطلق السموم على الريح الشديدة البرد ، ومنه قول الراجز :
اليوم يوم بارد سمومه من جزع اليوم فلا ألومه الفاء في قوله :
فمن الله علينا تدل على أن علة ذلك هي الخوف من الله في دار الدنيا ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإشفاق الذي هو الخوف الشديد من عذاب الله في دار الدنيا سبب للسلامة منه في الآخرة - يفهم من دليل خطابه ، أعني مفهوم مخالفته : أن من لم يخف من عذاب الله في الدنيا لم ينج منه في الآخرة .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة بمنطوقها ومفهومها جاء موضحا في غير هذا الموضوع . فذكر تعالى أن السرور في الدنيا وعدم الخوف من الله سبب العذاب يوم القيامة ، وذلك في قوله :
وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور الآية [ 84 \ 10 - 14 ] .
وقد تقرر في مسلك الإيماء والتنبيه أن " إن " المكسورة المشددة من حروف التعليل ، فقوله :
إنه كان في أهله مسرورا علة لقوله :
فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا .
والمسرور في أهله في دار الدنيا ليس بمشفق ولا خائف ، ويؤيد ذلك قوله بعده :
إنه ظن أن لن يحور ؛ لأن معناه : ظن أن لن يرجع إلى الله حيا يوم القيامة ، ولا شك أن من ظن أنه لا يبعث بعد الموت لا يكون مشفقا في أهله خوفا من العذاب ، لأنه لا يؤمن بالحساب والجزاء . وكون "
لن يحور " بمعنى لن يرجع - معروف في كلام العرب ، ومنه قول
مهلهل بن ربيعة التغلبي :
[ ص: 458 ] أليلتنا بذي حسم أنيري إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فقوله : فلا تحوري ، أي فلا ترجعي .
وقول
لبيد بن ربيعة العامري :
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد ما هو ساطع
أي يرجع رمادا ، وقيل : يصير ، والمعنى واحد .
وقوله تعالى :
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون الآية [ 56 \ 41 - 47 ] ، لأن تنعمهم في الدنيا المذكور في قوله :
مترفين ، وإنكارهم للبعث المذكور في قوله :
أئذا متنا وكنا ترابا الآية - دليل على عدم إشفاقهم في الدنيا ، وهو علة كونهم في سموم وحميم .
وقد قدمنا قريبا أن " إن " المكسورة المشددة من حروف التعليل ، فقوله تعالى :
إنهم كانوا قبل ذلك مترفين الآية - علة لقوله :
في سموم وحميم الآية .
وقد ذكر - جل وعلا - أن الإشفاق من عذاب الله من أسباب دخول الجنة والنجاة من العذاب يوم القيامة ، كما دل عليه منطوق آية الطور هذه ، قال تعالى في المعارج :
والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون إلى قوله :
أولئك في جنات مكرمون الآيات [ 27 \ 35 ] ، وذكر ذلك من صفات أهل الجنة في قوله تعالى :
إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى قوله :
أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [ 23 \ 57 - 61 ] ، وقد قال تعالى :
والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم [ 56 \ 10 - 12 ] .
وقوله في آية الواقعة المذكورة :
وكانوا يصرون على الحنث العظيم ، أي يديمون ويعزمون على الذنب الكبير ، كالشرك وإنكار البعث ، وقيل : المراد بالحنث حنثهم في اليمين الفاجرة كما في قوله تعالى :
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت [ 16 \ 38 ] .