[ ص: 459 ] قوله تعالى :
فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون .
نفى الله - جل وعلا - عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هاتين الآيتين الكريمتين ثلاث صفات قبيحة عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - رماه بها الكفار ، وهي الكهانة والجنون والشعر ، أما دعواهم أنه كاهن أو مجنون ، فقد نفاها صريحا بحرف النفي الذي هو " ما " في قوله :
فما أنت وأكد النفي بالباء في قوله : بكاهن وأما كونه شاعرا فقد نفاه ضمنا بأم المنقطعة في قوله :
أم يقولون شاعر ، لأنها تدل على الإضراب والإنكار المتضمن معنى النفي .
وقد جاءت آيات أخر بنفي هذه الصفات عنه - صلى الله عليه وسلم - كقوله تعالى في نفي الجنون عنه في أول القلم :
ما أنت بنعمة ربك بمجنون [ 68 \ 2 ] ، وقوله في التكوير :
وما صاحبكم بمجنون [ 81 \ 22 ] ، وكقوله في نفي الصفتين الأخيرتين أعني الكهانة والشعر :
وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون [ 69 \ 41 - 42 ] ، وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة الشعراء وغيرها .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :
نتربص به ريب المنون [ 52 \ 30 ] ، أي ننتظر به حوادث الدهر ، حتى يحدث له منها الموت ، فالمنون : الدهر ، وريبه : حوادثه التي يطرأ فيها الهلاك والتغيير ، والتحقيق أن الدهر هو المراد في قول
أبي ذؤيب الهذلي :
أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
لأن الضمير في قوله : وريبه يدل على أن المنون الدهر ، ومن ذلك أيضا قول الآخر :
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها
وقال بعض العلماء : المنون في الآية الموت ، وإطلاق المنون على الموت معروف في كلام العرب ، ومنه قول
أبي الغول الطهوي :
هم منعوا حمى الوقبى بضرب يؤلف بين أشتات المنون
لأن الذين ماتوا عند ذلك الماء المسمى بالوقبى ، جاءوا من جهات مختلفة ، فجمع الموت بينهم في محل واحد ، ولو ماتوا في بلادهم لكانت مناياهم في بلاد شتى .