قوله تعالى : أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى أعنده علم الغيب فهو يرى أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى .
قوله : تولى : أي رجع وأدبر عن الحق ، وقوله :
وأعطى قليلا ، قال بعضهم : قليلا من المال ، وقال بعضهم : أعطى قليلا من الكلام الطيب ، وقوله :
وأكدى أي قطع ذلك العطاء ولم يتمه ، وأصله من أكدى صاحب الحفر إذا انتهى في حفره إلى
[ ص: 468 ] صخرة لا يقدر على الحفر فيها ، وأصله من الكدية وهي الحجارة تعترض حافر البئر ونحوه فتمنعه الحفر ، وهذا الذي أعطى قليلا وأكدى اختلف فيه العلماء ، فقيل : هو
الوليد بن المغيرة قارب أن يؤمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فعيره بعض المشركين ، فقال : أتركت دين الأشياخ وضللتهم ؟ قال : إني خشيت عذاب الله ، فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله ، فرجع
الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه تمامه . فأنزل الله عز وجل الآية .
وعلى هذا فقوله : تولى : أي
الوليد عن الإسلام بعد أن قارب ،
وأعطى قليلا من المال للذي ضمن له أن يتحمل عنه ذنوبه .
وأكدى : أي بخل عليه بالباقي ، وقيل : أعطى قليلا من الكلام الطيب كمدحه للقرآن ، واعترافه بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، " وأكدى " أي انقطع عن ذلك ورجع عنه . وقيل : هو
العاص بن وائل السهمي ، كان ربما وافق النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمور ، وذلك هو معنى إعطائه القليل ثم انقطع عن ذلك ، وهو معنى إكدائه ، وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ولم ينسجم مع قوله بعده :
أعنده علم الغيب الآية [ 53 \ 35 ]
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب القرظي أنه
أبو جهل ، قال : والله ما يأمرنا
محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا بمكارم الأخلاق ، وذلك معنى إعطائه قليلا ، وقطعه لذلك معروف .
واقتصر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري على أنه
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال : روي أن
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان كان يعطي ماله في الخير ، فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=16436عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وهو أخوه من الرضاعة : يوشك ألا يبقى لك شيء . فقال
عثمان : إن لي ذنوبا وخطايا ، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى ، وأرجو عفوه ، فقال
عبد الله : أعطني ناقتك برحلها ، وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها ، فأعطاه وأشهد عليه ، وأمسك عن العطاء فنزلت الآية .
ومعنى " تولى " ترك المركز يوم
أحد ، فعاد
عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل . انتهى منه .
ولا يخفى سقوط هذا القول وبطلانه ، وأنه غير لائق بمنصب أمير المؤمنين
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان رضي الله عنه .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة سبعة أمور :
[ ص: 469 ] الأول : إنكار علم الغيب المدلول عليه بالهمزة في قوله :
أعنده علم الغيب والمراد نفي علمه للغيب .
الثاني : أن لكل من
إبراهيم وموسى صحفا لم ينبأ بما فيها هذا الكافر .
الثالث : أن
إبراهيم وفى ، أي أتم القيام بالتكاليف التي كلفه ربه بها .
الرابع : أن في تلك الصحف أنه
ألا تزر وازرة وزر أخرى .
الخامس : أن فيها أيضا أنه
ليس للإنسان إلا ما سعى .
السادس :
وأن سعيه سوف يرى .
السابع : أنه
يجزاه الجزاء الأوفى ، أي الأكمل الأتم .
وهذه الأمور السبعة قد جاءت كلها موضحة في غير هذا الموضع .
أما الأول منها ، وهو عدم علمهم الغيب ، فقد ذكره تعالى في مواضع كثيرة كقوله تعالى :
أم عندهم الغيب فهم يكتبون [ 68 \ 47 ] ، وقوله :
أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 78 ] ، وقوله :
وما كان الله ليطلعكم على الغيب [ 3 \ 179 ] ، وقوله تعالى :
عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول الآية [ 72 \ 26 ] وقوله تعالى :
قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ 27 \ 65 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وقد قدمناها مرارا .
والثاني : الذي هو أن
لإبراهيم وموسى صحفا لم يكن هذا المتولي المعطي قليلا المكدي عالما بها ، ذكره تعالى في قوله :
إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى [ 87 \ 18 - 19 ] .
والثالث منها : وهو
إبراهيم وفى تكاليفه ، فقد ذكره تعالى في قوله :
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن [ 2 \ 124 ] ، وقد قدمنا أن الأصح في الكلمات التي ابتلي بها أنها التكاليف .
وأما الرابع منها : وهو أنه
ألا تزر وازرة وزر أخرى ، فقد ذكره تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى :
وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون [ 29 \ 12 ] ،
[ ص: 470 ] وقوله تعالى :
ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [ 35 \ 18 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا ، والجواب عما يرد عليها من الإشكال في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :
ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وذكرنا وجه الجمع بين الآيات الواردة في ذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :
ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون [ 16 \ 25 ] .
وأما الخامس منها : وهو أنه
ليس للإنسان إلا ما سعى ، فقد جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى :
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها الآية [ 17 \ 7 ] ، وقوله :
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها [ 45 \ 15 ] ، وقوله :
ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون [ 30 \ 44 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى يدل على أن
الإنسان لا يستحق أجرا إلا على سعيه بنفسه ، ولم تتعرض هذه الآية لانتفاعه بسعي غيره بنفي ولا إثبات ، لأن قوله :
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى قد دلت اللام فيه على أنه لا يستحق ولا يملك شيئا إلا بسعيه ، ولم تتعرض لنفي الانتفاع بما ليس ملكا له ولا مستحقا له .
وقد جاءت آية من كتاب الله تدل على أن الإنسان قد ينتفع بسعي غيره وهي قوله تعالى :
والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء [ 52 \ 21 ] .
وقد أوضحنا وجه الجمع بين قوله تعالى :
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وبين قوله :
والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان الآية في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة النجم ، وقلنا فيه ما نصه : والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن الآية إنما دلت على
نفي ملك الإنسان لغير سعيه ، ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره ، لأنه لم يقل : وأن لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى ، وإنما قال :
[ ص: 471 ] وأن ليس للإنسان ، وبين الأمرين فرق ظاهر ، لأن سعي الغير ملك لساعيه إن شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير ، وإن شاء أبقاه لنفسه .
وقد أجمع العلماء على
انتفاع الميت بالصلاة عليه والدعاء له والحج عنه ونحو ذلك مما ثبت الانتفاع بعمل الغير فيه .
الثاني : أن إيمان الذرية هو السبب الأكبر في رفع درجاتهم ، إذ لو كانوا كفارا لما حصل لهم ذلك . فإيمان العبد وطاعته سعي منه في انتفاعه بعمل غيره من المسلمين ، كما وقع في الصلاة في الجماعة ، فإن صلاة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفردا ، وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير ، سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في الجماعة ، وهذا الوجه يشير إليه قوله تعالى :
واتبعتهم ذريتهم بإيمان .
الثالث : أن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد ليس للأولاد كما هو نص قوله تعالى :
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ولكن من سعي الآباء فهو سعي للآباء أقر الله عيونهم بسببه ، بأن رفع إليهم أولادهم ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم .
فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها ، لأن المقصود بالرفع إكرام الآباء لا الأولاد ، فانتفاع الأولاد تبع فهو بالنسبة إليهم تفضل من الله عليهم بما ليس لهم ، كما تفضل بذلك على الولدان والحور العين والخلق الذين ينشؤهم للجنة . والعلم عند الله تعالى . ا هـ منه .
والأمر السادس والسابع : وهما أن عمله سوف يرى ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى ، فقد جاءا موضحين في آيات كثيرة كقوله تعالى :
والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم الآية [ 7 \ 8 - 9 ] .
وقوله تعالى :
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 - 8 ] .
وقوله تعالى :
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] .
[ ص: 472 ] وقوله تعالى :
ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة
فهو يرى أي يعلم ذلك الغيب ، والآية تدل على أن سبب النزول لا يخلو من
إعطاء شيء في مقابلة تحمل الذنوب عمن أعطى لأن فاعل ذلك ليس عنده علم الغيب فيعلم به أن الذي ضمن له تحمل ذنوبه بفعل ذلك ، ولم ينبأ بما في الصحف الأولى ، من أنه "
ألا تزر وازرة وزر أخرى " أي لا تتحمل نفس ذنب نفس أخرى .
وقد قدمنا تفسيره موضحا في سورة بني إسرائيل ، وأنه لا يملك الإنسان ولا يستحق إلا سعي نفسه ، وقد اتضح بذلك أنه لا يمكن أن يتحمل إنسان ذنوب غيره ، وقد دلت على ذلك آيات كثيرة معلومة .
وقال
أبو حيان في البحر : أفرأيت بمعنى أخبرني ، والمفعول الأول هو الموصول وصلته . والمفعول الثاني هو جملة
أعنده علم الغيب فهو يرى .