قوله تعالى : والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية أنه وضع الأرض للأنام وهو الخلق ، لأن وضع الأرض لهم على هذا الشكل العظيم ، القابل لجميع أنواع الانتفاع من إجراء الأنهار وحفر الآبار وزرع الحبوب والثمار ، ودفن الأموات وغير ذلك من أنواع المنافع من أعظم الآيات
[ ص: 493 ] وأكبر الآلاء التي هي النعم ، ولذا قال تعالى بعده :
فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 13 ] .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من امتنانه - جل وعلا - على خلقه بوضع الأرض لهم بما فيها من المنافع ، وجعلها آية لهم ، دالة على كمال قدرة ربهم واستحقاقه للعبادة وحده - جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى :
وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين الآية [ 13 \ 3 ] .
وقوله تعالى :
هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه الآية [ 67 \ 15 ] .
وقوله تعالى :
والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 : 30 - 33 ] ، وقوله تعالى :
والأرض فرشناها فنعم الماهدون [ 51 \ 48 ] ، وقوله تعالى :
الذي جعل لكم الأرض فراشا الآية [ 2 \ 22 ] .
وقوله تعالى :
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا الآية [ 50 \ 7 ] .
وقوله تعالى :
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا [ 2 \ 29 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :
فيها فاكهة أي فواكه كثيرة ، وقد قدمنا أن هذا أسلوب عربي معروف ، وأوضحنا ذلك بالآيات وكلام العرب .
وقوله : والنخل ذات الأكمام ذات أي صاحبة ، والأكمام جمع كم بكسر الكاف ، وهو ما يظهر من النخلة في ابتداء إثمارها ، شبه اللسان ثم ينفخ عن النور ، وقيل : هو ليفها ، واختار
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير شموله للأمرين .
وقوله : والحب كالقمح ونحوه .
وقوله :
ذو العصف قال أكثر العلماء : العصف ورق الزرع ، ومنه قوله تعالى :
فجعلهم كعصف مأكول [ 105 \ 5 ] ، وقيل : العصف التبن .
وقوله : والريحان : اختلف العلماء في معناه ، فقال بعض أهل العلم : هو كل
[ ص: 494 ] ما طاب ريحه من النبت وصار يشم للتمتع بريحه . وقال بعض العلماء : الريحان الرزق ، ومنه قول النجم بن تولب العكلي :
فروح الإله وريحانه ورحمته وسماء درر غمام ينزل رزق العباد
فأحيا البلاد وطاب الشجر
ويتعين كون الريحان بمعنى الرزق على قراءة
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ، وأما على قراءة غيرهما فهو محتمل للأمرين المذكورين .
وإيضاح ذلك أن هذه الآية قرأها
نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم :
والحب ذو العصف والريحان بضم الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث ، وهو عطف على فاكهة أي : فيها فاكهة ، وفيها الحب إلخ ، وقرأه
ابن عامر : " والحب ذا العصف والريحان " ، بفتح الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث ، وفي رسم المصحف الشامي " ذا العصف " بألف بعد الذال ، مكان الواو ، والمعنى على قراءته : وخلق الحب ذا العصف والريحان ، وعلى هاتين القراءتين - فالريحان محتمل لكلا المعنيين المذكورين .
وقراءة
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي بضم الباء في " الحب " وضم الذال في " ذو العصف " وكسر نون الريحان عطفا على العصف ، وعلى هذا فالريحان لا يحتمل المشموم ؛ لأن الحب الذي هو القمح ونحوه - صاحب عصف وهو الورق أو التبن ، وليس صاحب مشموم طيب ريح .
فيتعين على هذه القراءة أن المراد بالعصف ما تأكله الأنعام من ورق وتبن . والمراد بالريحان ما يأكله الناس من نفس الحب ، فالآية على هذا المعنى كقوله :
متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 33 ] ، وقوله تعالى :
فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم [ 32 \ 27 ] .
وقوله تعالى :
فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم [ 20 \ 53 - 54 ] ، وقوله تعالى :
لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون الآية [ 16 \ 10 - 11 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :
فيها فاكهة ما ذكره تعالى فيه من الامتنان بالفاكهة التي هي أنواع - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في سورة
[ ص: 495 ] الفلاح
لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون [ 23 \ 19 ] ، وقوله تعالى :
وفاكهة وأبا [ 80 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وما ذكره هنا من الامتنان بالحب جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى :
فأنبتنا به جنات وحب الحصيد [ 50 \ 9 ] ، وقوله تعالى :
فأنبتنا فيها حبا وعنبا [ 80 \ 27 - 28 ] ، وقوله تعالى :
وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون [ 36 \ 33 ] ، وقوله تعالى :
نخرج منه حبا متراكبا الآية [ 6 \ 99 ] ، وقوله تعالى :
إن الله فالق الحب والنوى [ 6 \ 95 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وما ذكره تعالى هنا من الامتنان بالنخل - جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى :
والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد [ 50 \ 10 ] ، وقوله تعالى :
فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب الآية [ 23 \ 19 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وما ذكره هنا من الامتنان بالريحان على أنه الرزق كما في قراءة
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي - جاء موضحا في آيات كثيرة أيضا كقوله تعالى :
هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا [ 40 \ 13 ] ، وقوله تعالى :
قل من يرزقكم من السماء والأرض [ 10 \ 31 ] ، وقوله تعالى :
أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه [ 67 \ 21 ] ، وقوله تعالى :
وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات الآية [ 40 \ 64 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .