تنبيه :
اعلم أن علماء الأصول يقولون : إن
الإنسان لا يحرم عليه فعل شيء إلا بدليل من الشرع ، ويقولون : إن الدليل على ذلك عقلي ، وهو البراءة الأصلية المعروفة بالإباحة العقلية ، وهي استصحاب العدم الأصلي حتى يرد دليل ناقل عنه .
ونحن نقول : إنه قد دلت آيات من كتاب الله على أن استصحاب العدم الأصلي قبل ورود الدليل الناقل عنه حجة في الإباحة ، ومن ذلك أن الله لما أنزل تشديده في تحريم الربا في قوله تعالى :
فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله الآية [ 2 \ 279 ] ، وكانت وقت نزولها عندهم أموال مكتسبة من الربا ، اكتسبوها قبل نزول التحريم - بين الله تعالى لهم أن ما فعلوه من الربا على البراءة الأصلية قبل نزول التحريم لا حرج عليهم فيه ، إذ
[ ص: 498 ] لا تحريم إلا ببيان ، وذلك في قوله تعالى :
فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف [ 2 \ 275 ] ، وقوله : ما سلف أي : ما مضى قبل نزول التحريم . ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :
ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف [ 4 \ 22 ] ، وقوله تعالى :
وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف [ 4 \ 23 ] . والأظهر أن الاستثناء فيهما في قوله :
إلا ما قد سلف منقطع ، أي لكن ما سلف من ذلك قبل نزول التحريم فهو عفو ، لأنه على البراءة الأصلية .
ومن أصرح الآيات الدالة على ذلك - قوله تعالى :
وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [ 9 \ 115 ] ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استغفر لعمه
أبي طالب بعد موته على الشرك ، واستغفر المسلمون لموتاهم المشركين عاتبهم الله في قوله :
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى الآية [ 9 \ 113 ] - ندموا على الاستغفار لهم ، فبين الله لهم أن استغفارهم لهم لا مؤاخذة به ، لأنه وقع قبل بيان منعه ، وهذا صريح فيما ذكرنا .
وقد قدمنا أن الأخذ بالبراءة الأصلية يعذر به في الأصول أيضا في الكلام على قوله تعالى :
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وبينا هناك كلام أهل العلم في ذلك ، وأوضحنا ما جاء في ذلك من الآيات القرآنية . والعلم عند الله تعالى .