قوله تعالى : وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون .
لما ذكر - جل وعلا - ما أعد لأصحاب الشمال من العذاب ؛ بين بعض أسبابه ، فذكر منها أنهم كانوا قبل ذلك في دار الدنيا مترفين أي متنعمين ، وقد قدمنا أن القرآن دل على أن الإتراف والتنعم والسرور في الدنيا من أسباب العذاب يوم القيامة ، لأن صاحبه معرض عن الله لا يؤمن به ولا برسله ، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، وقوله تعالى :
[ ص: 522 ] فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا [ 84 \ 11 - 13 ] ، وقد أوضحنا هذا في الكلام على آية الطور المذكورة آنفا .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من
كون إنكار البعث سببا لدخول النار ، لأن قوله تعالى لما ذكر أنهم في سموم وحميم وظل من يحموم ؛ بين أن من أسباب ذلك أنهم قالوا
أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما - جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى :
وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 13 \ 5 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى :
وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] . وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من إنكارهم بعث آبائهم الأولين في قوله :
أوآباؤنا الأولون [ 56 \ 48 ] ، وأنه تعالى بين لهم أنه يبعث الأولين والآخرين في قوله :
قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [ 56 \ 49 - 50 ] - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، فبينا فيه أن البعث الذي أنكروا سيتحقق في حال كونهم أذلاء صاغرين ، وذلك في قوله تعالى في الصافات :
وقالوا إن هذا إلا سحر مبين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون قل نعم وأنتم داخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون [ 37 \ 15 - 19 ] .
وقوله :
أوآباؤنا الأولون ، قرأه عامة القراء السبعة ، غير
ابن عامر وقالون عن
نافع : أوآباؤنا بفتح الواو على الاستفهام والعطف . وقد قدمنا مرارا أن همزة الاستفهام إذا جاءت بعدها أداة عطف كالواو والفاء وثم ، نحو :
أوآباؤنا أفأمن أهل القرى [ 7 \ 97 ] ،
أثم إذا ما وقع [ 10 \ 51 ] - أن في ذلك وجهين لعلماء العربية والمفسرين : الأول منهما أن أداة العطف عاطفة للجملة المصدرة بالاستفهام على ما قبلها ، وهمزة الاستفهام متأخرة رتبة عن حرف العطف ، ولكنها قدمت عليه لفظا لا معنى لأن الأصل في الاستفهام التصدير به كما هو معلوم في محله .
والمعنى على هذا واضح ، وهو أنهم أنكروا بعثهم أنفسهم بأداة الإنكار التي هي الهمزة ، وعطفوا على ذلك بالواو إنكارهم بعث آبائهم الأولين بأداة الإنكار التي هي
[ ص: 523 ] الهمزة المقدمة عن محلها لفظا لا رتبة ، وهذا القول هو قول الأقدمين من علماء العربية ، واختاره
أبو حيان في البحر المحيط
وابن هشام في مغني اللبيب ، وهو الذي صرنا نميل إليه أخيرا بعد أن كنا نميل إلى غيره . الوجه الثاني : هو أن همزة الاستفهام في محلها الأصلي ، وأنها متعلقة بجملة محذوفة ، والجملة المصدرة بالاستفهام معطوفة على المحذوفة بحرف العطف الذي بعد الهمزة ، وهذا الوجه يميل إليه
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في أكثر المواضع من كشافه ، وربما مال إلى غيره .
وعلى هذا القول فالتقدير : أمبعوثون نحن وآباؤنا الأولون ؟
وما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري هنا من أن قوله : " آباؤنا " معطوف على واو الرفع في قوله : لمبعوثون ، وأنه ساغ العطف على ضمير رفع متصل من غير توكيد بالضمير المنفصل لأجل الفصل بالهمزة - لا يصح ، وقد رده عليه
أبو حيان وابن هشام وغيرهما .
وهذا الوجه الأخير مال إليه
ابن مالك في الخلاصة في قوله :
وحذف متبوع بدا هنا استبح وعطفك الفعل على الفعل يصح وقرأ هذا الحرف
nindex.php?page=showalam&ids=16810قالون وابن عامر " أو آباؤنا " بسكون الواو ، والذي يظهر لي على قراءتهما " أو " بمعنى الواو العاطفة ، وأن قوله : " آباؤنا " ، معطوف على محل المنصوب الذي هو اسم " إن " ، لأن عطف المرفوع على منصوب " إن " بعد ذكر خبرها جائز بلا نزاع ، لأن اسمها وإن كان منصوبا فأصله الرفع لأنه مبتدأ في الأصل ، كما قال
ابن مالك في الخلاصة :
وجائز رفعك معطوفا على منصوب إن بعد أن تستكملا وإنما قلنا : إن " أو " بمعنى الواو ، لأن إتيانها بمعنى الواو معروف في القرآن وفي كلام العرب ، فمنه في القرآن :
فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا [ 775 - 6 \ ] ; لأن الذكر الملقى للعذر ، والنذر معا لا لأحدهما ، لأن المعنى أنها أتت للذكر إعذارا وإنذارا . وقوله تعالى :
ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] ، أي ولا كفورا ، وهو كثير في كلام العرب ، ومنه قول
عمرو بن معدي كرب :
قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم ما بين ملجم مهره أو سافع
[ ص: 524 ] فالمعنى ما بين الملجم مهره وسافع : أي آخذ بناصيته ليلجمه ، وقول
نابغة ذبيان :
قالت ألا ليت ما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد فحسبوه فألفوه كما زعمت
ستا وستين لم تنقص ولم تزد
فقوله : أو نصفه بمعنى ونصفه كما هو ظاهر من معنى البيتين المذكورين ، لأن مرادها أنها تمنت أن يكون الحمام المار بها هو ونصفه معه لها مع حمامتها التي معها ، ليكون الجميع مائة حمامة ، فوجدوه ستا وستين ، ونصفها ثلاث وثلاثون فيكون المجموع تسعا وتسعين ، والمروي في ذلك عنها أنها قالت :
ليت الحمام ليه إلى حمامتيه
ونصفه قديه تم الحمام مايه
وقول
توبة بن الحمير :
قد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وقوله تعالى :
أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أجمع عامة القراء على إثبات همزة الاستفهام في قوله :
أئذا متنا وأثبتها أيضا عامة السبعة غير
نافع nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي في قوله : أئنا ، وقرأه
نافع nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي : " إنا لمبعوثون " ، بهمزة واحدة مكسورة على الخبر ، كما عقده صاحب الدرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام
نافع بقوله :
فصل واستفهام إن تكررا فصير الثاني منه خبرا
واعكسه في النمل وفوق الروم . . . . . . . . . . . . إلخ
والقراءات في الهمزتين في أئذا و أئنا معروفة ،
فنافع يسهل الهمزة الثانية بين بين ، ورواية
nindex.php?page=showalam&ids=16810قالون عنه هي إدخال ألف بين الهمزتين الأولى المحققة والثانية المسهلة .
ورواية
nindex.php?page=showalam&ids=16810قالون هذه عن
نافع بالتسهيل والإدخال مطابقة لقراءة
أبي عمرو ،
فأبو عمرو وقالون عن
نافع يسهلان ويدخلان ، ورواية
nindex.php?page=showalam&ids=17274ورش عن
نافع هي تسهيل الأخيرة منهما بين بين من غير إدخال ألف . وهذه هي قراءة
ابن كثير nindex.php?page=showalam&ids=17274وورش ،
فابن كثير nindex.php?page=showalam&ids=17274وورش يسهلان ولا يدخلان .
[ ص: 525 ] وقرأ
هشام عن
ابن عامر بتحقيق الهمزتين ، وبينهما ألف الإدخال .
وقرأ
عاصم وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وابن ذكوان عن
ابن عامر بتحقيق الهمزتين من غير ألف الإدخال ، هذه هي القراءات الصحيحة في مثل أئذا و أئنا ونحو ذلك في القرآن .
تنبيه :
اعلم - وفقني الله وإياك - أن ما جرى في الأقطار الإفريقية من إبدال الأخيرة من هذه الهمزة المذكورة وأمثالها في القرآن هاء خالصة من أشنع المنكر وأعظم الباطل ، وهو انتهاك لحرمة القرآن العظيم ، وتعد لحدود الله ، ولا يعذر فيه إلا الجاهل الذي لا يدري ، الذي يظن أن القراءة بالهاء الخالصة صحيحة ، وإنما قلنا هذا لأن إبدال الهمزة فيما ذكر هاء خالصة لم يروه أحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينزل عليه به
جبريل البتة ، ولم يرو عن صحابي ولم يقرأ به أحد من القراء ، ولا يجوز بحال من الأحوال ، فالتجرؤ على الله بزيادة حرف في كتابه ، وهو هذه الهاء التي لم ينزل بها الملك من السماء البتة ، هو كما ترى . وكون اللغة العربية قد سمع فيها إبدال الهمزة هاء لا يسوغ التجرؤ على الله بإدخال حرف في كتابه لم يأذن بإدخاله الله ولا رسوله .
ودعوى أن العمل جرى بالقراءة بالهاء لا يعول عليها ، لأن جريان العمل بالباطل باطل ، ولا أسوة في الباطل بإجماع المسلمين ، وإنما الأسوة في الحق ، والقراءة سنة متبعة مروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا خلاف فيه .
وقوله تعالى : متنا ، وقرأه
ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو وشعبة عن
عاصم " متنا " بضم الميم وقرأه
نافع وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وحفص عن
عاصم متنا بكسر الميم ، وقد قدمنا مسوغ كسر الميم لغة في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى :
ياليتني مت قبل هذا [ 19 \ 23 ] .