قوله تعالى :
نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون .
قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير
ابن كثير قدرنا بتشديد الدال ، وقرأه
ابن كثير بتخفيفها ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها وجهان أو أكثر من التفسير ، ويكون كل ذلك صحيحا ، وكله يشهد له قرآن ، فنذكر الجميع وأدلته من القرآن ، ومن ذلك هذه الآية الكريمة .
وإيضاح ذلك أن قوله : قدرنا [ 56 \ 60 ] وجهان من التفسير ، وفيما تتعلق به :
على أن نبدل [ 56 \ 61 ] وجهان أيضا ، فقال بعض العلماء : وهو اختيار
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير أن قوله :
قدرنا بينكم الموت أي قدرنا لموتكم آجالا مختلفة وأعمارا متفاوتة فمنكم من يموت صغيرا ومنكم من يموت شابا ، ومنكم من يموت شيخا .
وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى :
ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر [ 22 \ 5 ] ، وقوله تعالى :
ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون [ 40 \ 67 ] ، وقوله تعالى :
وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [ 35 \ 11 ] ، وقوله تعالى :
ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها [ 63 \ 11 ] ، وقوله :
[ ص: 530 ] وما نحن بمسبوقين [ 56 \ 6 ] ، أي ما نحن بمغلوبين . والعرب تقول : سبقه على كذا أي غلبه عليه وأعجزه عن إدراكه ، أي : وما نحن بمغلوبين على ما قدرنا من آجالكم وحددناه من أعماركم فلا يقدر أحد أن يقدم أجلا أخرناه ولا يؤخر أجلا قدمناه .
وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة كقوله تعالى :
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 7 \ 34 ] ، وقوله تعالى :
إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر [ 71 \ 4 ] ، وقوله تعالى :
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وعلى هذا القول ، فقوله تعالى :
على أن نبدل أمثالكم [ 56 \ 61 ] ، ليس متعلقا بـ " مسبوقين " بل بقوله تعالى :
نحن قدرنا بينكم الموت [ 56 \ 60 ] ، والمعنى : نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم ، أي نبدل من الذين ماتوا أمثالا لهم نوجدهم .
وعلى هذا ، فمعنى تبديل أمثالهم - إيجاد آخرين من ذرية أولئك الذين ماتوا ، وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى :
إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين [ 6 \ 133 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وهذا التفسير هو اختيار
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ، وقراءة " قدرنا " بالتشديد مناسبة لهذا الوجه ، وكذلك لفظة " بينكم " .
الوجه الثاني : أن " قدرنا " بمعنى قضينا وكتبنا أي كتبنا الموت وقدرناه على جميع الخلق ، وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى :
كل شيء هالك إلا وجهه [ 28 \ 88 ] ، وقوله تعالى :
كل نفس ذائقة الموت [ 21 \ 35 ] ، وقوله تعالى :
وتوكل على الحي الذي لا يموت [ 25 \ 58 ] ، وعلى هذا القول فقوله :
على أن نبدل [ 56 \ 61 ] ، متعلق بـ " مسبوقين " ، أي : ما نحن مغلوبين ، والمعنى : وما نحن بمغلوبين على أن نبدل أمثالكم إن أهلكناكم لو شئنا ، فنحن قادرون على إهلاككم ، ولا يوجد أحد يغلبنا ويمنعنا من خلق أمثالكم بدلا منكم .
وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى :
إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا [ 4 \ 133 ] ، وقوله تعالى :
إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء [ 6 \ 133 ] ، وقوله تعالى :
[ ص: 531 ] إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز [ 14 \ 19 - 20 ] ، وقوله تعالى :
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [ 47 \ 38 ] ، وقد قدمنا هذا في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى :
إن يشأ يذهبكم أيها الناس الآية [ 4 \ 133 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :
وننشئكم في ما لا تعلمون [ 56 \ 61 ] ، فيه للعلماء أقوال متقاربة .
قال بعضهم : " ننشئكم " بعد إهلاككم فيما لا تعلمونه من الصور والهيئات ، كأن ننشئكم قردة وخنازير ، كما فعلنا ببعض المجرمين قبلكم .
وقال بعضهم : " ننشئكم " فيما لا تعلمونه من الصفات ، فنغير صفاتكم ونجمل المؤمنين ببياض الوجوه ، ونقبح الكافرين بسواد الوجوه وزرقة العيون ، إلى غير ذلك من الأقوال .