الحكمة في الأذان
أما الحكمة في الأذان فإن أعظمها أن من خصائص هذه الأمة كما تقدم في أصل مشروعيته ، وقد اشتمل على أصول عقائد التوحيد تعلن على الملأ ، تملأ الأسماع حتى صار شعار المسلمين .
ونقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض رحمه الله قوله :
[ ص: 148 ] اعلم أن الأذان كلام جامع لعقيدة الإيمان مشتمل على نوعه من العقليات والسمعيات ، فأوله : إثبات الذات وما تستحقه من الكمالات والتنزيه عن أضدادها وذلك بقوله : الله أكبر وهذه اللفظة مع اختصار لفظها دالة على ما ذكرناه .
ثم يصرح بإثبات الوحدانية ونفي ضدها من الشركة المستحيلة في حقه سبحانه وتعالى ، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد المقدمة على كل وظائف الدين ، ثم يصرح بإثبات النبوة والشهادة بالرسالة لنبينا
محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانية ، وموضعها بعد التوحيد ; لأنها من باب الأفعال الجائزة الوقوع ، وتلك المقدمات من باب الواجبات وبعد هذه القواعد كلمات العقائد العقليات ، فدعا إلى الصلاة وجعلها عقب إثبات النبوة ، لأن معرفة وجوبها من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من جهة العقل .
ثم دعا إلى الفلاح وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم ، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء وهي آخر تراجم عقائد الإسلام . إلخ .
ومراده بالعقليات في العقائد أي إثبات وجود الله وأنه واحد لا شريك له ، وهو المعروف عندهم بقانون الإلزام ، الذي يقال فيه : إن الموجود إما جائز الوجود أو واجبه ، فجائز الوجود جائز العدم قبل وجوده واستوى الوجود والبقاء في العدم قبل أن يوجد ، فترجح وجوده على بقائه في العدم ، وهذا الترجيح لا بد له من مرجح وهو الله تعالى . وواجب الوجود لم يحتج إلى موجد ، ولم يجز في صفة عدم وإلا لاحتاج موجده إلى موجد ، ومرجح وجوده على موجود .
وهكذا فاقتضى الإلزام العقلي وجوب وجود موجد واجب الوجود ، وهذا من حيث الوجود فقط ، وقد أدخل العقل في بعض الصفات التي يستلزمها الوجود ، والحق أن العقل لا دخل له في العقائد من حيث الإثبات أو النفي ; لأنها سمعية ولا تؤخذ إلا عن الشارع الحكيم ، لأن العقل يقصر عن ذلك ، ومرادنا التنبيه على إدخال العقليات هنا فقط .
وقد سقنا كلام
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض هذا في حكمة الأذان لوجاهته ، ولتعلم من خصوصية الأذان في هذه الأمة وغيرها به أنه ليس بصلصلة ناقوس أجوف ، ولا أصوات بوق أهوج ، ولا دقات طبل أرعن ، كما هو الحال عند الآخرين ، بل هو كلمات ونداء يوقظ القلوب من سباتها ، وتفيق النفوس من غفلتها ، وتكف الأذهان عن تشاغلها ، وتهيئ المسلم إلى هذه
[ ص: 149 ] الفريضة العظمى ، ثانية أركان الإسلام وعموده .
فإذا ما سمع الله أكبر الله أكبر مرتين ، عظم الله في نفسه ، واستحضر جلاله وقدسه واستصغر كل شيء بعد الله ، فلا يشغله شيء عن ذكر الله ; لأن الله أكبر من كل شيء ، فلا يشغل نفسه عنه أي شيء .
فإذا سمع أشهد أن لا إله إلا الله ، علم أن من حقه عليه طاعة الله وعبادته .
وإذا سمع : أشهد أن
محمدا رسول الله ، علم أنه يلزمه استجابة داعي الله .
وإذا سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ، علم أن فلاحه في صلاته في وقتها لا فيما يشغله عنها .
وهكذا فكان ممشاه إليها تخشعا ، وخطاه إلى المسجد تطوعا مع حضور القلب واستجماع الشعور .
ومن هنا أيضا ندرك السر في طلب السامع محاكاة الأذان تبعا للمؤذن ليرتبط معه في إعلانه وعقيدته وشعوره ، كما جاء في أثر
nindex.php?page=showalam&ids=59عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن رجلا قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009564يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قل مثل ما يقولون ، فإذا انتهيت فاسأل تعطه " . رواه
أبو داود .
وقد قدمنا هذا الموضوع هنا ، وإن كان ليس من منهج الكتاب ، ولكن لموجب اقتضاء ، ولمناسبة مبحث الأذان .
أما الموجب فهو أني سمعت منذ أيام أثناء الكتابة في مباحث الأذان ، وسمعت من إذاعة لبلد عربي مسلم أن كاتبا استنكر الأذان في الصبح خاصة ، وفي بقية الأوقات بواسطة المكبر للصوت ، وقال : إنه يرهق الأعصاب وخاصة عند أداء الناس لأعمالهم أو عند الفراغ منها والعودة لراحتهم ، ولا سيما في الفجر عند نومهم ، فكان وقعه أليما أن يصدر ذلك وينشر ، ولكن أجاب عليه أحد خطباء الجمع في خطبة وافية ، وأفهمه أن الإرهاق والاضطراب إنما هو من عدم الاستجابة لهذا النداء ، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الشيطان يبول في أذن النائم ، وأنه يعقد عليه ثلاث عقد ، فإذا ما استيقظ وذكر الله انحلت عقدة ، وإذا توضأ انحلت عقدة أخرى ، فإذا صلى انحلت العقدة الثالثة ، وأصبح نشيطا إلى غير ذلك من الرد الكافي .
[ ص: 150 ] ولا شك أن مثل تلك الكتابة لا تصدر إلا ممن لا يعي معنى الأذان .
هذا ما استوجب عرض الحكمة من الأذان ، وإن كانت مجانبة لمنهج الكتاب ، ولكن بمناسبة مباحث الأذان يغتفر ذلك ، وبالله التوفيق .