قوله تعالى : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في مذكرة الدراسة : المعنى أن الله هو الذي خلقكم وقدر على قوم منكم الكفر ، وعلى قوم منكم الإيمان ، ثم بعد ذلك يهدي كلا لما قدره عليه كما قال :
والذي قدر فهدى [ 87 \ 3 ] ، فيسر الكافر إلى العمل بالكفر ، ويسر المؤمن للعمل بالإيمان ، كما قال صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009617اعملوا فكل ميسر لما خلق له " . اهـ .
ومن المعلوم أن هذا النص من مأزق
القدرية والجبرية ، وأن أهل السنة يؤمنون أن كلا بقدر الله ومشيئته ، كما قال
ابن تيمية في العقيدة الواسطية : وهم أهل السنة وسط بين
[ ص: 196 ] قول : إن
العبد مجبور على عمله لا اختيار له كالورقة في مهب الريح . وبين قول : إن العبد يخلق فعله بنفسه ، ويفعل ما يريد بمشيئته .
وأهل السنة يقولون بقوله تعالى :
لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين [ 81 \ 29 ] .
وقد ذكر
القرطبي أقوال الطائفتين من أهل العلم ، ولكل طائفة ما استدلت به ، الأولى عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009618خلق الله فرعون في بطن أمه كافرا ، وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا " .
بما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم : " إن
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009619أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع أو باع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " .
وقال : قال علماؤنا : تعلق العلم الأزلي بكل معلوم ، فيجري ما علم وأراد وحكم .
الثانية : ما جاء في قوله : وقال جماعة من أهل العلم : إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا ، قالوا : وتمام الكلام : و
هو الذي خلقكم ، ثم وصفهم فقال :
فمنكم كافر ومنكم مؤمن .
وكقوله تعالى :
والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه [ 24 \ 45 ] ، قالوا : فالله خلقهم والمشي فعلهم .
واختاره
nindex.php?page=showalam&ids=14127الحسين بن الفضل ، قال : لأنه لو خلقهم كافرين ومؤمنين لما وصفهم بفعلهم ، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009620كل مولود يولد على الفطرة " . الحديث . اهـ .
وبالنظر في هاتين المقالتين نجد الآتي :
أولا : التشبيه في المقالة الثانية لا يسلم ; لأن وصف الدواب في حالة المشي ليس وصفا فعليا ، وإنما هو من ضمن خلقه تعالى لها ولم يكن منها فعل في ذلك .
ثانيا : ما استدلت به كل طائفة من الحديثين لا تعارض بينهما ; لأن الحديث الأول : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009621إن أحدكم ليعمل " لبيان المصير والمنتهى ، وفق العلم الأزلي والإرادة القدرية .
[ ص: 197 ] والحديث الثاني لبيان مبدأ وجود الإنسان في الدنيا وأنه يولد على الفطرة حينما يولد ، أما مصيره فبحسب ما قدر الله عليه .
وقد نقل
القرطبي كلاما
للزجاج وقال عنه : هو أحسن الأقوال ونصه : إن الله خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الكفر ، وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الإيمان . والكافر يكفر ويختار الكفر بعد أن خلق الله إياه ; لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه ، لأن وجود خلاف المقدر عجز ، ووجود خلاف المعلوم جهل .
قال
القرطبي : وهذا أحسن الأقوال ، وهو الذي عليه جمهور الأمة . اهـ .
ولعل مما يشهد لقول
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج قوله تعالى :
والله خلقكم وما تعملون [ 37 \ 96 ] .
هذا حاصل ما قاله علماء التفسير ، وهذا الموقف كما قدمنا من مأزق القدر والجبر ، وقد زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام ، وبتأمل النص وما يكتنفه من نصوص في السياق مما قبله وبعده ، نجد الجواب الصحيح والتوجيه السليم ، وذلك ابتداء من قوله تعالى :
له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير .
فكون الملك له لا يقع في ملكه إلا ما يشاء ، وكونه على كل شيء قدير يفعل في ملكه ما يريد .
ثم قال :
هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير .
ثم جاء بعدها