قوله تعالى
فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين سنسمه على الخرطوم [ ص: 253 ]
إذا كان في مجيء الآية قبل هذه :
وإنك لعلى خلق عظيم رد على دعواهم الكاذبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنون .
ففي هذه الآية تنزيهه - صلى الله عليه وسلم - مما اشتملت عليه من رذائل ونقائص وافتضاح لهم . وبيان الفرق والبون الشاسع بينه وبينهم . ففي الوقت الذي وصفه بأنه على خلق عظيم ، وصفهم بعكس ذلك من : كذب ، ومداهنة ، وكثرة حلف ، ومهانة ، وهمز ، ومشي بنميمة ، ومنع للخير ، وعتل ، وتجبر ، واعتداء ، وظلم ، وانقطاع زنيم ، عشر خصال ذميمة . ونتيجتها الوسم بالخزي على الأنوف صغارا لهم .
وقد جاءت آيات القرآن تبين مساوئ تلك الصفات وتحذر منها ، ولا يسعنا إيرادها كلها ، وتكفي الإشارة إلى بعضها; تنبيها على جميعها في قوله تعالى :
ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم [ 49 \ 11 - 12 ]
وقوله تعالى :
ودوا لو تدهن فيدهنون
ذكر
القرطبي لمعاني المداهنة فوق عشرة أقوال أرجحها الملاينة ، وقد ذكر هنا ودادتهم وتمنيهم المداهنة ، ولم يذكر لنا هل داهنهم - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ وهل يريدون بذلك مصلحة أم لا ؟ وقد جاء بيان ذلك مفصلا ; بأنهم أرادوا التدرج من المداهنة وملاينته - صلى الله عليه وسلم - معهم ، إلى ما بعدها من تعطيل الدعوة .
وقد رجح
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ذلك بقوله : ود هؤلاء المشركون يا
محمد ، لو تلين لهم في دينك ; بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم فيلينون لك في عبادتك إلهك ، كما قال - جل ثناؤه - :
ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ 17 \ 74 ] اهـ .
ويشهد لما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير هذا ما جاء في سبب نزول سورة ( الكافرون ) .
[ ص: 254 ] فأنزل الله تعالى :
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد . السورة [ 109 \ 1 - 3 ] .
ومما هو صريح في قصدهم بالمداهنة ، والدافع عليها والجواب عليهم قد جاء موضحا في قوله تعالى :
ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [ 2 \ 109 ] ، ثم قال تعالى مبينا موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هذه المحاولة بقوله :
فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره [ 2 \ 109 ] .
وقد جاء الله بأمره حكما بينه وبينهم ، وهنا يمكن أن يقال : إن كل مداهنة في الدين مع المشركين تدخل في هذا الموضوع .
وقد جاء بعد قوله تعالى :
ولا تطع كل حلاف مهين إشارة إلى أنهم لا يطاعون في مداهنتهم ، وأنهم سيبذلون كل ما في وسعهم; لترويج مداهنتهم ولو بكثرة الحلف ، وفرق بين المداهنة في الدين والملاطفة في الدنيا ، أو التعاون وتبادل المنافع الدنيوية ، كما قدمنا عند قوله تعالى :
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم الآية [ 60 \ 8 ] . والله تعالى أعلم .