قوله تعالى :
وقد خلقكم أطوارا هي المبينة في قوله تعالى :
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين [ 12 \ 12 - 14 ] .
وهذا مروي معناه عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . قاله
ابن كثير والقرطبي .
وقيل : " أطوارا " : شبابا ، وشيوخا ، وضعفاء .
وقيل : " أطوارا " أي : أنواعا : صحيحا ، وسقيما ، وبصيرا ، وضريرا ، وغنيا ، وفقيرا .
[ ص: 308 ] وقيل : " أطوارا " : اختلافهم في الأخلاق والأفعال . قاله
القرطبي .
ولكن كما قدم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - أنه إذا تعددت الأقوال في الآية وكان فيها قرينة دالة على أحد الأقوال فإنه يبينه ، وهنا قرينة في الآية على أن المراد هو الأول ، وإن كان الجميع صحيحا ، والقرينة هي أن الآية في قضية الخلق وهو الإيجاد الأول ; لأن ما بعد الإيجاد صفات عارضة .
وقد جاء نظير الآية في سورة " المؤمنون " كما قدمنا ، وقد ذيلت بقوله تعالى :
فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 14 ] .
ومنها أن الآية سيقت في الدلالة على قدرة الله على بعثهم بعد موتهم لمجازاتهم ، فكان الأنسب بها أن يكون متعلقها كمال الخلقة والقدرة على الإيجاد .
والأنسب لهذا المعنى هو خلقهم من نطفة أمشاج وماء مهين ، ثم تطويرها إلى علقة ، ثم تطوير العلقة مضغة ، ثم خلق المضغة عظاما ، ثم كسو العظام لحما . ثم نشأته نشأة أخرى .
إنها قدرة باهرة وسلطة قاهرة .
ومثله في " الواقعة " :
أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ 56 \ 58 - 59 ] .
وفي " الطور " في أصل الخلقة :
أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] .
إن أصل الخلقة والإيجاد ، وهو أقوى دليل على القدرة ، وهو الذي يجاب به على الكفرة ، كما في قوله تعالى :
قتل الإنسان ما أكفره [ 80 \ 17 ] ثم قال :
من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره [ 80 \ 18 - 19 ] ذلك كله دليل على أن المراد بالأطوار في الآية ، هو ما جاء عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس المشتملة عليه سورة " المؤمنون " .
تنبيه .
إن بيان
أطوار خلقة الإنسان على النحو المتقدم أقوى في انتزاع الاعتراف بقدرة الله
[ ص: 309 ] من العبد ، من يحيي المخلوق جملة ; لأنه يوقفه على عدة مراحل من حياته وإيجاده ، وكل طور منها آية مستقلة ، وهذا التوجيه موجود في الظواهر الكونية أيضا من سماء وأرض ، فالسماء كانت دخانا وكانت رتقا ففتقهما ، والأرض كانت على غير ما هي عليه الآن ، وبين الجميع في قوله :
أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها [ 79 \ 27 - 32 ] . وأجمع من ذلك كله في قوله تعالى في " فصلت "
قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا [ 41 \ 9 - 12 ] . ثم ختم تعالى هذا التفصيل الكامل بقوله :
ذلك تقدير العزيز العليم [ 41 \ 12 ] ، ففيه بيان أن تلك
الأطوار في المخلوقات بتقدير معين ، وأنه بعلم ، ومن العزيز سبحانه ، فكان من الممكن خلقها دفعة واحدة ، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .
ولكن العرض على هذا التفصيل أبعد أثرا في نفس السامع وأشد تأثيرا عليه . والعلم عند الله تعالى .