قوله تعالى :
وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا
" المساجد " : جمع مسجد . والمسجد لغة اسم مكان على وزن مفعل ، كمجلس على غير القياس مكان الجلوس ، وهو لغة يصدق على كل مكان صالح للسجود .
وقد ثبت من السنة أن الأرض كلها صالحة لذلك ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007809وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ، واستثنى منها أماكن خاصة نهى عن الصلاة فيها ; لأوصاف طارئة عليها ، وهي
المزبلة ،
والمجزرة ،
والمقبرة ،
وقارعة الطريق ،
وفوق الحمام ،
ومواضع الخسف ،
ومعاطن الإبل ،
والمكان المغصوب على خلاف فيه من حيث الصحة وعدمها ، والبيع .
وقد عد الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - تسعة عشر موضعا عند قوله تعالى :
ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين [ 15 \ 80 ] في الكلام على حكم أرض
الحجر ، ومواطن الخسف ، وساق كل موضع بدليله ، وهو بحث مطول مستوفى ; والمسجد عرفا
[ ص: 321 ] كل ما خصص للصلاة ، وهو المراد بالإضافة هنا لله تعالى ، وهي إضافة تشريف وتكريم مع الإشعار باختصاصها بالله ، أي : بعبادته وذكره ، كما قال تعالى :
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة [ 24 \ 36 - 37 ] .
ولهذا
منعت من اتخاذها لأمور الدنيا من بيع وتجارة ، كما في الحديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009696إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا له : لا أربح الله تجارتك " رواه
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي وحسنه .
وكذلك
إنشاد الضالة ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009697إذا سمعتم من ينشد ضالة بالمسجد ، فقولوا له : لا ردها الله عليك ; فإن المساجد لم تبن لذلك " رواه
مسلم .
وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد قال له - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009698إن هذه المساجد لم تبن لذلك ; إنما هي لذكر الله وما والاه " ، وفي موطأ
مالك : أن
عمر - رضي الله عنه - بنى رحبة في ناحية المسجد تسمى : البطحاء . وقال : من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا ، أو يرفع صوته ، فليخرج إلى هذه الرحبة .
واللغط هو : الكلام الذي فيه جلبة واختلاط . وأل في المساجد : للاستغراق ; فتفيد شمول جميع المساجد ، كما تدل في عمومها على المساواة ، ولكن جاءت آيات
تخصص بعض المساجد بمزيد فضل واختصاص ، وهي :
المسجد الحرام ; خصه الله تعالى بما جاء في قوله :
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت [ 3 \ 96 - 97 ] . فذكر هنا سبع خصال ليست لغيره من المساجد من أنه : أول بيت وضع للناس ، ومبارك ، وهدى للعالمين ، وفيه آيات بينات ، ومقام
إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا ، والحج والعمرة إليه ، وآيات أخر .
والمسجد الأقصى ; قال تعالى :
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير [ 17 \ 1 ] فخص بكونه مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه ، وبالبركة حوله ، وأري - صلى الله عليه وسلم - فيه من آيات ربه .
[ ص: 322 ] وقد كان من الممكن أن يعرج به إلى السماء من جوف
مكة ، ومن
المسجد الحرام ، ولكن ليريه من آيات الله : كعلامات الطريق ; لتكون دليلا له على
قريش في إخباره بالإسراء والمعراج ، وتقديم
جبريل له الأقداح الثلاثة : بالماء ، واللبن ، والخمر ، واختياره اللبن رمزا للفطرة . واجتماع الأنبياء له والصلاة بهم في
المسجد الأقصى ، بينما رآهم في السماوات السبع ، وكل ذلك من آيات الله أريها - صلى الله عليه وسلم - في
المسجد الأقصى .
والمسجد النبوي ،
ومسجد قباء :
فمسجد قباء : نزل فيه قوله تعالى :
لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين [ 9 \ 108 ] .
فجاء في صحيح
مسلم : أن
أبا سعيد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009699أي مسجد أسس على التقوى من أول يوم ؟ فأخذ - صلى الله عليه وسلم - حفنة من الحصباء وضرب بها أرض مسجده ، وقال : " مسجدكم هذا " .
وجاء في بلوغ المرام وغيره : حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنه - : أن
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009700النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أهل قباء ، فقال : " إن الله يثني عليكم " ، فقالوا : إنا نتبع الحجارة الماء ، رواه
البزار بسند ضعيف .
قال
ابن حجر : وصححه
nindex.php?page=showalam&ids=13114ابن خزيمة من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة - رضي الله عنه - بدون ذكر الحجارة .
وقال صاحب وفاء الوفاء : وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13287ابن شيبة من طرق ما حاصله أن : الآية لما نزلت أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أهل قباء .
وفي رواية : أهل ذلك المسجد .
وفي رواية :
بني عمرو بن عوف . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009701إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور ، فما بلغ من طهوركم ؟ قالوا : نستنجي بالماء " .
قال : وروى
أحمد ،
وابن شيبة ، واللفظ
لأحمد عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009702انطلقت إلى مسجد التقوى أنا nindex.php?page=showalam&ids=12وعبد الله بن عمر nindex.php?page=showalam&ids=24وسمرة بن جندب ، فأتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا لنا : انطلقوا إلى مسجد التقوى ، فانطلقنا نحوه . فاستقبلنا يداه على كاهل أبي بكر وعمر فثرنا في وجهه ، فقال : من هؤلاء يا أبا بكر ؟ فقال : عبد الله بن عمر ، nindex.php?page=showalam&ids=3وأبو هريرة ، وجندب .
[ ص: 323 ] فحديث
مسلم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتلك النصوص في
مسجد قباء .
وقد قال
ابن حجر - رحمه الله - : والحق أن كلا منهما أسس على التقوى ، وقوله تعالى :
فيه رجال يحبون أن يتطهروا [ 9 \ 108 ] ظاهر في
أهل قباء .
وقيل : إن حديث
مسلم في خصوص
مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، جاء ردا على اختلاف رجلين في المسجد المعني بها ، فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يبين لهم أن الآية ليست خاصة
بمسجد قباء ، وإنما هي عامة في كل مسجد أسس على التقوى ، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما هو معلوم في الأصول .
وعليه ، فالآية إذا اشتملت وتشتمل على كل مسجد أينما كان ، إذا كان أساسه من أول يوم بنائه على التقوى ، ويشهد لذلك سياق الآية بالنسبة إلى ما قبلها وما بعدها ، فقد جاءت قبلها قصة مسجد الضرار بقوله :
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه [ 9 \ 107 - 108 ] .
ومعلوم أن
مسجد الضرار كان بمنطقة
قباء ، وطلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي لهم فيه تبركا في ظاهر الأمر ، وتقريرا لوجوده يتذرعون بذلك ، ولكن الله كشف عن حقيقتهم .
وجاءت الآية بمقارنة بين المسجدين ، فقال تعالى له :
لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا الآية [ 9 \ 108 ] .
وجاء بعد ذلك مباشرة للمقارنة مرة أخرى أعم من الأولى في قوله تعالى :
أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا
يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم [ 9 \ 109 - 110 ] .
وبهذا يكون السبب في نزول الآية هو المقارنة بين مبدأين متغايرين ، وأن الأولية في الآية في قوله :
من أول يوم [ 9 \ 108 ] أولية نسبية ، أي : بالنسبة لكل مسجد في أول
[ ص: 324 ] يوم بنائه ، وإن كان الظاهر فيها أولية زمانية خاصة ، وهو أول يوم وصل - صلى الله عليه وسلم -
المدينة ، ونزل
بقباء ، وتظل هذه المقارنة في الآية موجودة إلى ما شاء الله في كل زمان ومكان كما قدمنا .
وقد اختصت تلك المساجد الأربعة بأمور تربط بينها بروابط عديدة ، أهمها : تحديد مكانها حيث كان بوحي أو شبه الوحي ، ففي
البيت الحرام قوله تعالى :
وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت [ 22 \ 26 ] .
وفي
المسجد الأقصى ما جاء في الأثر عنه : أن الله أوحى إلى نبيه
داود أن ابن لي بيتا ، قال : وأين تريدني أبنيه لك يا رب ؟ قال : حيث ترى الفارس المعلم شاهرا سيفه . فرآه في مكانه الآن ، وكان حوشا لرجل من
بني إسرائيل . إلى آخر القصة في
البيهقي .
وفي
مسجد قباء بسند فيه ضعف .
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009703لما نزل - صلى الله عليه وسلم - قباء ، قال : " من يركب الناقة " إلى أن ركبها علي ، فقال له : " أرخ زمامها " فاستنت ، فقال : " خطوا المسجد حيث استنت " .
وفي
المسجد النبوي : جاء في السير كلها :
أنه - صلى الله عليه وسلم - كان كلما مر بحي من أحياء المدينة ، وقالوا له : هلم إلى العدد والعدة ، فيقول : " خلوا سبيلها ، فإنها مأمورة " ، حتى وصلت إلى أمام بيت nindex.php?page=showalam&ids=50أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - . وكان أمامه مربد لأيتام ومقبرة ليهود ، فاشترى المكان ونبش القبور وبنى المسجد .
وكذلك في البناء فكلها بناء رسل الله ،
فالمسجد الحرام بناه
إبراهيم - عليه السلام - ، أي البناء الذي ذكره القرآن وما قبله فيه روايات عديدة ، ولكن الثابت في القرآن قوله تعالى :
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل [ 2 \ 127 ] .
وكذلك
بيت المقدس ، وبينه وبين البيت أربعون سنة ، كما في حديث
عائشة في
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، أي : تجديد بنائه .
وكذلك
مسجد قباء ، فقد شارك - صلى الله عليه وسلم - في بنائه ، وجاء في قصة بنائه
أن رجلا لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - حاملا حجرا ، فقال : دعني أحمله عنك يا رسول الله ، فقال له : " انطلق وخذ غيرها ، فلست بأحوج من الثواب مني " .
وكذلك مسجده الشريف
بالمدينة المنورة ، حين بناه أولا من جذوع النخل وجريده
[ ص: 325 ] ثم بناه مرة أخرى بالبناء بعد عودته من تبوك .
ولهذه الخصوصيات لهذه المساجد الأربعة ، تميزت عن عموم المساجد كما قدمنا .
ومن أهم ذلك مضاعفة الأعمال فيها ، أصلها الصلاة ، كما بوب لهذا
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري بقوله : باب فضل الصلاة في مسجد
مكة والمدينة . وساق الحديثين .
الأول حديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009706لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - " .
والحديث الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008763صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " .
كما اختص
المسجد النبوي بروضته ، التي هي روضة من رياض الجنة .
وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009707ومنبري على ترعة من ترع الجنة " ، وهو حديث مشهور : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009708ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على ترعة من ترع الجنة " .
واختص
مسجد قباء بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009709من تطهر في بيته ، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين ، كان له كأجر عمرة " ، أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه nindex.php?page=showalam&ids=16670وعمر بن شبة بسند جيد ، ورواه
أحمد والحاكم ، وقال : صحيح بسند .
قال في وفاء الوفاء : وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16670عمر بن شبة : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16071سويد بن سعيد ، قال حدثنا
أيوب بن حيام ، عن
سعيد بن الرقيش الأسدي ، قال : جاءنا
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك إلى
مسجد قباء ، فصلى ركعتين إلى بعض هذه السواري ، ثم سلم وجلس وجلسنا حوله ، فقال : سبحان الله ! : ما أعظم حق هذا المسجد ، ولو كان على مسيرة شهر كان أهلا أن يؤتى ، من خرج من بيته يريده معتمدا إليه ليصلي فيه أربع ركعات أقلبه الله بأجر عمرة .
وقد اشتهر هذا المعنى عند العامة والخاصة ، حتى قال
عبد الرحمن بن الحكم في شعر له :
فإن أهلك فقد أقررت عينا من المعتمرات إلى قباء من اللائي سوالفهن غيد
عليهن الملاحة بالبهاء
[ ص: 326 ] وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16670ابن شبة بسند صحيح من طريق
عائشة بنت سعد بن أبي وقاص ، قالت : سمعت أبي يقول : لأن أصلي في
مسجد قباء ركعتين أحب إلي من أن آتي
بيت المقدس مرتين . لو يعلمون ما في
قباء ; لضربوا إليه أكباد الإبل ، وغير ذلك من الآثار مرفوعة وموقوفة ، مما يؤكد هذا المعنى من أن
قباء اختص بأن من تطهر في بيته وأتى إليه عامدا ، وصلى فيه ركعتين ; كان له كأجر عمرة .