قوله تعالى : إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا
الهداية هنا بمعنى البيان ، كما في قوله تعالى :
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] .
والسبيل : الطريق السوي ، وفيه بيان انقسام الإنسان إلى قسمين : شاكر معترف بنعمة الله تعالى عليه ، مقابل لها بالشكر ، أو كافر جاحد .
وقوله :
إما شاكرا ، يشير إلى إنعام الله تعالى على العبد ، وقد ذكر تعالى نعمتين عظيمتين :
الأولى : إيجاد الإنسان من العدم بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ، وهذه نعمة عظمى لا كسب للعبد فيها .
والثانية : الهداية بالبيان والإرشاد إلى سبيل الحق والسعادة ، وهذه نعمة إرسال الرسل وإنزال الكتب ، ولا كسب للعبد فيها أيضا .
وقد قال العلماء : هناك ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها :
الأولى : وجوده بعد العدم .
الثانية : نعمة الإيمان .
الثالثة : دخول الجنة .
وقالوا : الإيجاد من العدم ، تفضل من الله تعالى كما قال :
لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير [ 42 \ 49 - 50 ] ، ومن جعله الله عقيما فلن
[ ص: 380 ] ينجب قط .
والثانية : الإنعام بالإيمان ، كما في قوله تعالى :
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ 28 \ 56 ] .
وقد جاء في الحديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009620كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه " . الحديث .
وكون المولود يولد بين أبوين مسلمين ، لا كسب له في ذلك .
والثالثة : الإنعام بدخول الجنة كما في الحديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009745لن يدخل أحدكم الجنة بعمله " . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ; إلا أن يتغمدني الله برحمته " .
وقد ذكر تعالى نعمتين صراحة ، وهما خلق الإنسان بعد العدم ، وهدايته السبيل .
والثالثة : تأتي ضمنا في ذكر النتيجة :
إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 5 ] ; لأن الأبرار هم الشاكرون بدليل التقسيم :
شاكرا وإما كفورا إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 3 - 5 ] .
وقوله تعالى :
إنا هديناه السبيل [ 76 \ 3 ] تقدم أنها هداية بيان .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان الهداية العامة والخاصة . والجمع بينهما في أكثر من موضع ، وفي مستهل هذه السورة بيان لمبدأ الإنسان وموقفه من بعثة الرسل وهدايتهم ، ونتائج أعمالهم من شكر أو كفر .
وقد
جاءت السنة بقراءة هذه السورة في الركعة الثانية من فجر يوم الجمعة ، مع قراءة سورة السجدة في الركعة الأولى .
وقال
ابن تيمية : إن قراءتهما معا في ذلك اليوم ; لمناسبة خلق
آدم في يوم الجمعة ، ليتذكر الإنسان في هذا اليوم - وهو يوم الجمعة - مبدأ خلق أبيه
آدم ، ومبدأ خلق عموم الإنسان ، ويتذكر مصيره ومنتهاه ; ليرى ما هو عليه من دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهل هو شاكر أو كفور . اهـ ملخصا .
ومضمون ذلك كله أنه يرى أن الحكمة في قراءة السورتين في فجر الجمعة ، أن يوم
[ ص: 381 ] الجمعة هو يوم
آدم - عليه السلام - فيه خلق ، وفيه نفخ فيه الروح ، وفيه أسكن الجنة ، وفيه أهبط إلى الأرض ، وفيه تيب عليه ، وفيه تقوم الساعة .
كما قيل : يوم الجمعة يوم
آدم ، ويوم الإثنين يوم
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أي : فيه ولد وفيه أنزل عليه ، وفيه وصل
المدينة في الهجرة ، وفيه توفي .
ولما كان يوم الجمعة يوم إيجاد الإنسان الأول ويوم أحداثه كلها ، إيجادا من العدم ، وإنعاما عليه بسكنى الجنة ، وتواجده على الأرض ، وتلقي التوبة عليه من الله ; أي : يوم الإنعام عليه حسا ومعنى ، فناسب أن يذكر الإمام بقراءته سورة " السجدة " في فجر يوم الجمعة ; لما فيها من قصة خلق
آدم في قوله :
الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه [ 32 \ 7 - 9 ] .
وفيها قوله تعالى :
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] ، مما يبث الخوف في قلوب العباد ، إذ لا يعلم من أي الفريقين هو ، فيجعله أشد حرصا على فعل الخير ، وأشد خوفا من الشر .
ثم حذر من نسيان يوم القيامة :
فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا [ 32 \ 14 ] .
وهكذا في الركعة الأولى ، يرجع المسلم إلى أصل وجوده ويستحضر قصة الإنسان الأول .
وكذلك يأتي في الركعة الثانية بقصته هو منذ بدأ خلقه :
من نطفة أمشاج ، ويذكره بالهدي الذي أنزل عليه ، ويرغبه في شكر نعمه عليه ، ويحذره من جحودها وكفرانها .
وقد بين له منتهاه على كلا الأمرين :
إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 4 - 5 ] .
فإذا قرع سمعه ذلك في يوم خلقه ويوم مبعثه ، حيث فيه تقوم الساعة ، فكأنه ينظر ويشاهد أول وجوده وآخر مآله ; فلا يكذب بالبعث . وقد علم مبدأ خلقه ولا يقصر في واجب ، وقد علم منتهاه ، وهذا في غاية الحكمة كما ترى .
[ ص: 382 ] ومما يشهد لما ذهب إليه - رحمه الله - ، اعتبار المناسبات كما في كثير من الأمور ، كما في قوله تعالى :
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ 2 \ 185 ] ، فجميع الشهور من حيث الزمن سواء ، ولكن بمناسبة بدء نزول القرآن في هذا الشهر جعله الله محلا للصوم ، وأكرم فيه الأمة كلها بل العالم كله ، فتتزين فيه الجنة وتصفد فيه مردة الشياطين ، وتتضاعف فيه الأعمال .
وكذلك الليلة منه التي كان فيها البدء اختصها تعالى عن بقية ليالي الشهر ، وهي ليلة القدر جعلها الله تعالى خيرا من ألف شهر ، وما ذاك إلا لأنها كما قال تعالى :
إنا أنزلناه في ليلة القدر [ 97 \ 1 ] السورة بتمامها .