قوله تعالى : وأرجلكم إلى الكعبين ، في قوله : وأرجلكم ثلاث قراءات : واحدة شاذة ، واثنتان متواترتان .
أما الشاذة : فقراءة الرفع ، وهي قراءة
الحسن ; وأما المتواترتان : فقراءة النصب ، وقراءة الخفض .
أما النصب : فهو قراءة
نافع ،
وابن عامر ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ،
وعاصم في رواية
حفص من السبعة ،
ويعقوب من الثلاثة .
وأما الجر : فهو قراءة
ابن كثير ،
وحمزة ،
وأبي عمرو ،
وعاصم ، وفي رواية
أبي بكر .
أما قراءة النصب : فلا إشكال فيها ، لأن الأرجل فيها معطوفة على الوجوه ، وتقرير المعنى عليها : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم .
وإنما أدخل مسح الرأس بين المغسولات محافظة على الترتيب ، لأن الرأس يمسح بين المغسولات ; ومن هنا أخذ جماعة من العلماء وجوب
الترتيب في أعضاء الوضوء حسبما في الآية الكريمة .
وأما على قراءة الجر : ففي الآية الكريمة إجمال ، وهو أنها يفهم منها الاكتفاء بمسح الرجلين في الوضوء عن الغسل كالرأس ، وهو خلاف الواقع للأحاديث الصحيحة الصريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء والتوعد بالنار لمن ترك ذلك ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007373ويل للأعقاب من النار " .
اعلم أولا ، أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة لهما حكم الآيتين ، كما هو معروف عند العلماء ، وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة : وأرجلكم ، بالنصب صريح في وجوب
غسل الرجلين في الوضوء ، فهي تفهم أن قراءة الخفض إنما هي لمجاورة المخفوض مع أنها في الأصل منصوبة بدليل قراءة النصب ، والعرب تخفض الكلمة لمجاورتها للمخفوض ، مع أن إعرابها النصب ، أو الرفع .
وما ذكره بعضهم من أن الخفض بالمجاورة معدود من اللحن الذي يتحمل
[ ص: 331 ] لضرورة الشعر خاصة ، وأنه غير مسموع في العطف ، وأنه لم يجز إلا عند أمن اللبس ، فهو مردود بأن أئمة اللغة العربية صرحوا بجوازه .
وممن صرح به
الأخفش ،
وأبو البقاء ، وغير واحد .
ولم ينكره إلا
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج ، وإنكاره له ، مع ثبوته في كلام العرب ، وفي القرآن العظيم ، يدل على أنه لم يتتبع المسألة تتبعا كافيا .
والتحقيق : أن الخفض بالمجاورة أسلوب من أساليب اللغة العربية ، وأنه جاء في القرآن لأنه بلسان عربي مبين .
فمنه في النعت قول
امرئ القيس : [ الطويل ]
كأن ثبيرا في عرانين ودقه كبير أناس في بجاد مزمل
بخفض " مزمل " بالمجاورة ، مع أنه نعت " كبير " المرفوع بأنه خبر " كأن " وقول
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذي الرمة : [ البسيط ]
تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب
إذ الرواية بخفض " غير " ، كما قاله غير واحد للمجاورة ، مع أنه نعت " سنة " المنصوب بالمفعولية .
ومنه في العطف ، قول
النابغة : [ البسيط ]
لم يبق إلا أسير غير منفلت وموثق في حبال القد مجنوب
بخفض " موثق " لمجاورته المخفوض ، مع أنه معطوف على " أسير " المرفوع بالفاعلية .
وقول
امرئ القيس : [ الطويل ]
وظل طهاة اللحم ما بين منضج صفيف شواء أو قدير معجل
بجر " قدير " لمجاورته للمخفوض ، مع أنه عطف على " صفيف " المنصوب بأنه مفعول اسم الفاعل الذي هو " منضج " ، والصفيف : فعيل بمعنى مفعول وهو المصفوف من اللحم على الجمر لينشوي ، والقدير : كذلك فعيل بمعنى مفعول ، وهو المجعول في القدر من اللحم لينضج بالطبخ .
[ ص: 332 ] وهذا الإعراب الذي ذكرناه هو الحق ، لأن الإنضاج واقع على كل من الصفيف والقدير ، فما زعمه "
الصبان " في حاشيته على "
الأشموني " من أن قوله " أو قدير " معطوف على " منضج " بتقدير المضاف أي وطابخ قدير . . . الخ ، ظاهر السقوط ; لأن المنضج شامل لشاوي الصفيف ، وطابخ القدير ، فلا حاجة إلى عطف الطابخ على المنضج لشموله له ، ولا داعي لتقدير " طابخ " محذوف .
وما ذكره
العيني من أنه معطوف على " شواء " ، فهو ظاهر السقوط أيضا ; وقد رده عليه "
الصبان " ، لأن المعنى يصير بذلك : وصفيف قدير ، والقدير لا يكون صفيفا .
والتحقيق : هو ما ذكرنا من الخفض بالمجاورة ، وبه جزم
nindex.php?page=showalam&ids=13439ابن قدامة في المغني .
ومن الخفض بالمجاورة في العطف ، قول
زهير : [ الكامل ]
لعب الزمان بها وغيرها بعدي سوافي المور والقطر
بجر " القطر " لمجاورته للمخفوض مع أنه معطوف على " سوافي " المرفوع ، بأنه فاعل غير .
ومنه في التوكيد قول الشاعر : [ البسيط ]
يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
بجر " كلهم " على ما حكاه
الفراء ، لمجاورة المخفوض ، مع أنه توكيد " ذوي " المنصوب بالمفعولية .
ومن أمثلته في القرآن العظيم في العطف - كالآية التي نحن بصددها - قوله تعالى :
وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون [ 56 \ 22 ] ، على قراءة
حمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي .
ورواية
المفضل عن
عاصم بالجر لمجاورته لأكواب وأباريق ، إلى قوله :
ولحم طير مما يشتهون [ 56 \ 21 ] ، مع أن قوله :
وحور عين ، حكمه الرفع ، فقيل : إنه معطوف على فاعل " يطوف " الذي هو
ولدان مخلدون [ 56 \ 17 ] .
وقيل : هو مرفوع على أنه مبتدأ خبره محذوف ، دل المقام عليه .
أي : وفيها حور عين ، أو لهم حور عين .
[ ص: 333 ] وإذن فهو من العطف بحسب المعنى .
وقد أنشد
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه للعطف على المعنى قول
الشماخ ، أو
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذي الرمة : [ الكامل ]
بادت وغير آيهن مع البلا إلا رواكد جمرهن هباء
ومشجج أما سواء قذاله فبدا وغيب ساره المعزاء
لأن الرواية بنصب " رواكد " على الاستثناء ، ورفع مشجج عطفا عليه ; لأن المعنى لم يبق منها إلا رواكد ومشجج ، ومراده بالرواكد أثافي القدر ، وبالمشجج وتد الخباء ، وبه تعلم أن وجه الخفض في قراءة
حمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي هو المجاورة للمخفوض ، كما ذكرنا خلافا لمن قال في قراءة الجر : إن العطف على أكواب ، أي يطاف عليهم بأكواب ، وبحور عين ، ولمن قال : إنه معطوف على جنات النعيم ، أي هم في جنات النعيم ، وفي حور على تقدير حذف مضاف ، أي في معاشرة حور .
ولا يخفى ما في هذين الوجهين ، لأن الأول يرد ، بأن الحور العين لا يطاف بهن مع الشراب ، لقوله تعالى :
حور مقصورات في الخيام [ 55 \ 72 ] .
والثاني فيه أن كونهم في جنات النعيم ، وفي حور ظاهر السقوط كما ترى ، وتقدير ما لا دليل عليه لا وجه له .
وأجيب عن الأول بجوابين ، الأول : أن العطف فيه بحسب المعنى ، لأن المعنى : يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحور . قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج وغيره .
الجواب الثاني : أن الحور قسمان :
1 - حور مقصورات في الخيام .
2 - وحور يطاف بهن عليهم
قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16785الفخر الرازي وغيره ، وهو تقسيم لا دليل عليه ، ولا يعرف من صفات الحور العين كونهن يطاف بهن كالشراب ، فأظهرها الخفض بالمجاورة ، كما ذكرنا .
وكلام
الفراء ،
وقطرب ، يدل عليه ، وما رد به القول بالعطف على أكواب من كون الحور لا يطاف بهن يرد به القول بالعطف على
ولدان مخلدون ، في قراءة الرفع ; لأنه يقتضي أن الحور يطفن عليهم كالولدان ، والقصر في الخيام ينافي ذلك .
وممن جزم بأن خفض وأرجلكم ; لمجاورة المخفوض
البيهقي في " السنن
[ ص: 334 ] الكبرى " ، فإنه قال ما نصه : باب قراءة من قرأ " وأرجلكم " نصبا ، وأن الأمر رجع إلى الغسل ، وأن من قرأها خفضا ، فإنما هو للمجاورة ، ثم ساق أسانيده إلى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
وعلي ،
nindex.php?page=showalam&ids=10وعبد الله بن مسعود ،
nindex.php?page=showalam&ids=16561وعروة بن الزبير ،
ومجاهد ،
وعطاء ،
nindex.php?page=showalam&ids=13723والأعرج ،
وعبد الله بن عمرو بن غيلان ،
ونافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ ،
nindex.php?page=showalam&ids=17379وأبي محمد يعقوب بن إسحاق بن يزيد الحضرمي أنهم قرءوها كلهم : وأرجلكم ، بالنصب .
قال : وبلغني عن
nindex.php?page=showalam&ids=12402إبراهيم بن يزيد التيمي أنه كان يقرؤها نصبا ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16447عبد الله بن عامر اليحصبي ، وعن
عاصم برواية
حفص ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11948أبي بكر بن عياش من رواية
الأعشى ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي ، كل هؤلاء نصبوها .
ومن خفضها فإنما هو للمجاورة ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش : كانوا يقرءونها بالخفض ، وكانوا يغسلون ، اهـ كلام
البيهقي .
ومن أمثلة الخفض بالمجاورة في القرآن في النعت قوله تعالى :
عذاب يوم محيط [ 11 \ 84 ] ، بخفض محيط مع أنه نعت للعذاب . وقوله تعالى :
عذاب يوم أليم [ 11 \ 26 ] ، ومما يدل أن النعت للعذاب ، وقد خفض للمجاورة ، كثرة ورود الألم في القرآن نعتا للعذاب . وقوله تعالى :
بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ [ 85 \ 22 ] ، على قراءة من قرأ بخفض محفوظ كما قاله
القرطبي ومن كلام العرب : " هذا جحر ضب خرب " بخفض خرب لمجاورة المخفوض مع أنه نعت خبر المبتدأ ; وبهذا تعلم أن دعوى كون الخفض بالمجاورة لحنا لا يتحمل إلا لضرورة الشعر باطلة ، والجواب عما ذكروه من أنه لا يجوز إلا عند أمن اللبس ، هو أن اللبس هنا يزيله التحديد بالكعبين ، إذ لم يرد تحديد الممسوح ، وتزيله قراءة النصب ، كما ذكرنا ، فإن قيل قراءة الجر الدالة على مسح الرجلين في الوضوء هي المبينة لقراءة النصب بأن تجعل قراءة النصب عطفا على المحل ; لأن الرءوس مجرورة بالباء في محل نصب على حد قول
ابن مالك في الخلاصة : [ الرجز ]
وجر ما يتبع ما جر ومن راعى في الاتباع المحل فحسن
وابن مالك وإن كان أورد هذا في " إعمال المصدر " فحكمه عام ، أي وكذلك الفعل والوصف ، كما أشار له في الوصف بقوله : [ الرجز ]
واجرر أو انصب تابع الذي انخفض كمبتغي جاه ومالا من نهض
[ ص: 335 ] فالجواب أن بيان قراءة النصب بقراءة الجر ، كما ذكر ، تأباه السنة الصريحة الصحيحة الناطقة بخلافه ، وبتوعد مرتكبه بالويل من النار بخلاف بيان قراءة الخفض بقراءة النصب ، فهو موافق لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه قولا وفعلا .
فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما ، عن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007374تخلف عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافرناها فأدركنا ، وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر ونحن نتوضأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : " أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار " ، وكذلك هو في الصحيحين ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه .
وفي صحيح
مسلم عن
عائشة رضي الله عنها ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007375أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار " ، وروى
البيهقي والحاكم بإسناد صحيح عن
nindex.php?page=showalam&ids=4708عبد الله بن حارث بن جزء ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007376ويل للأعقاب ، وبطون الأقدام من النار " ; وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه ،
nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير ، عن
جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007373ويل للأعقاب من النار " .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد عن
معيقيب ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007373ويل للأعقاب من النار " ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
أبي أمامة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007373ويل للأعقاب من النار " ، قال : فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما .
وثبت في أحاديث الوضوء عن أمير المؤمنين
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان ،
وعلي ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ،
ومعاوية ، وعبد الله بن زيد بن عاصم ،
nindex.php?page=showalam&ids=241والمقداد بن معديكرب : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007377أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسل الرجلين في وضوئه ، إما مرة أو مرتين أو ثلاثا " على اختلاف رواياتهم .
وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007378 " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فغسل قدميه " . ثم قال : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " .
والأحاديث في الباب كثيرة جدا ، وهي صحيحة صريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء ، وعدم الاجتزاء بمسحهما .