قوله تعالى :
فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه الآية ، اعلم أن لفظة من في هذه الآية الكريمة محتملة ، لأن تكون للتبعيض ،
فيتعين في التيمم التراب الذي له غبار يعلق باليد ; ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية ، أي مبدأ ذلك المسح كائن من الصعيد الطيب ، فلا يتعين ماله غبار ، وبالأول قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ،
[ ص: 354 ] وأحمد ، وبالثاني قال
مالك ،
وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى جميعا .
فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن في هذه الآية الكريمة إشارة إلى هذا القول الأخير ، وذلك في قوله تعالى :
ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج [ 5 \ 6 ] ، فقوله :
من حرج نكرة في سياق النفي زيدت قبلها من ، والنكرة إذا كانت كذلك ، فهي نص في العموم ، كما تقرر في الأصول ، قال في " مراقي السعود " عاطفا على صيغ العموم : [ الرجز ]
وفي سياق النفي منها يذكر إذا بني أو زيد من منكر
فالآية تدل على عموم النفي في كل أنواع الحرج ، والمناسب لذلك كون من لابتداء الغاية ، لأن كثيرا من البلاد ليس فيه إلا الرمال أو الجبال ، فالتكليف بخصوص ما فيه غبار يعلق باليد ، لا يخلو من حرج في الجملة .
ويؤيد هذا ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007406أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة ، فليصل " ، وفي لفظ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007407فعنده مسجده وطهوره " الحديث .
فهذا نص صحيح صريح في أن من
أدركته الصلاة في محل ليس فيه إلا الجبال أو الرمال أن ذلك الصعيد الطيب الذي هو الحجارة ، أو الرمل طهور له ومسجد ; وبه تعلم أن ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري من تعين كون من للتبعيض غير صحيح ; فإن قيل : ورد في الصحيح ما يدل على تعين التراب الذي له غبار يعلق باليد ، دون غيره من أنواع الصعيد ، فقد أخرج
مسلم في صحيحه من حديث
حذيفة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007408فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا ، إذا لم نجد الماء " الحديث ، فتخصيص التراب بالطهورية في مقام الامتنان يفهم منه أن غيره من الصعيد ليس كذلك ، فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن كون الأمر مذكورا في معرض الامتنان ، مما يمنع فيه اعتبار مفهوم المخالفة ، كما تقرر في الأصول ، قال في " مراقي السعود " في موانع اعتبار مفهوم المخالفة : [ الرجز ]
[ ص: 355 ] أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع
ولذا أجمع العلماء على جواز
أكل القديد من الحوت مع أن الله خص اللحم الطري منه في قوله :
وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا [ 16 \ 14 ] ; لأنه ذكر اللحم الطري في معرض الامتنان ، فلا مفهوم مخالفة له ، فيجوز أكل القديد مما في البحر .
الثاني : أن مفهوم التربة مفهوم لقب ، وهو لا يعتبر عند جماهير العلماء ، وهو الحق كما هو معلوم في الأصول .
الثالث : أن التربة فرد من أفراد الصعيد ; وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يكون مخصصا له عند الجمهور ، سواء ذكرا في نص واحد كقوله تعالى :
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ 2 \ 238 ] ، أو ذكرا في نصين كحديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007409أيما إهاب دبغ فقد طهر " ، عند
أحمد ،
ومسلم ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي ، وغيرهم ، مع حديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007410هلا انتفعتم بجلدها " ، يعني شاة ميتة عند الشيخين ، كلاهما من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، فذكر الصلاة الوسطى في الأول ، وجلد الشاة في الأخير لا يقتضي أن غيرهما من الصلوات في الأول ، ومن الجلود في الثاني ليس كذلك ، قال في " مراقي السعود " عاطفا على ما لا يخصص به العموم : [ الرجز ]
وذكر ما وافقه من مفرد ومذهب الراوي على المعتمد
ولم يخالف في عدم التخصيص بذكر بعض أفراد العام بحكم العام ، إلا
nindex.php?page=showalam&ids=11956أبو ثور محتجا بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص .
وأجيب من قبل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة ، وفائدة ذكر البعض نفي احتمال إخراجه من العام ، والصعيد في اللغة : وجه الأرض ، كان عليه تراب ، أو لم يكن ، قاله
الخليل ،
nindex.php?page=showalam&ids=12585وابن الأعرابي ،
nindex.php?page=showalam&ids=14416والزجاج .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة ، قال الله تعالى :
وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا [ 18 \ 8 ] ، أي أرضا غليظة لا تنبت شيئا ، وقال تعالى :
فتصبح صعيدا زلقا [ 18 \ 40 ] ، ومنه قول
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذي الرمة : [ البسيط ]
كأنه بالضحى ترمي الصعيد به دبابة في عظام الرأس خرطوم
[ ص: 356 ] وإنما سمي صعيدا ; لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض ، وجمع الصعيد صعدات على غير قياس ، ومنه حديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007411إياكم والجلوس في الصعدات " ، قاله
القرطبي وغيره عنه .
واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيب ، فقالت طائفة : " الطيب " هو الطاهر ، فيجوز
التيمم بوجه الأرض كله ، ترابا كان أو رملا ، أو حجارة ، أو معدنا ، أو سبخة ، إذا كان ذلك طاهرا ، وهذا مذهب
مالك ،
وأبي حنيفة ،
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري ، وغيرهم .
وقالت طائفة : الطيب : الحلال ، فلا يجوز
التيمم بتراب مغصوب . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ،
وأبو يوسف : الصعيد الطيب : التراب المنبت ، بدليل قوله تعالى :
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه الآية [ 7 \ 58 ]
فإذا علمت هذا ، فاعلم أن المسألة لها واسطة وطرفان : طرف أجمع جميع المسلمين على جواز التيمم به ، وهو التراب المنبت الطاهر الذي هو غير منقول ، ولا مغصوب ; وطرف أجمع جميع المسلمين على منع
التيمم به ، وهو الذهب والفضة الخالصان ، والياقوت والزمرد ، والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما ، والنجاسات وغير هذا هو الواسطة التي اختلف فيها العلماء ، فمن ذلك المعادن .
فبعضهم يجيز التيمم عليها
كمالك ، وبعضهم يمنعه
nindex.php?page=showalam&ids=13790كالشافعي ومن ذلك الحشيش ، فقد روى
ابن خويز منداد عن
مالك أنه يجيز
التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض ، ومشهور مذهب
مالك المنع ، ومن ذلك
التيمم على الثلج ، فروي عن
مالك في " المدونة " ، و " المبسوط جوازه " ، قيل : مطلقا ، وقيل : عند عدم الصعيد ، وفي غيرهما منعه .
واختلف عنه في
التيمم على العود ، فالجمهور على المنع ، وفي " مختصر الوقار " أنه جائز ، وقيل : يجوز في العود المتصل بالأرض دون المنفصل عنها ، وذكر
الثعلبي أن
مالكا قال : لو
ضرب بيده على شجرة ، ثم مسح بها أجزأه ، قال : وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري : يجوز بالأرض ، وكل ما عليها من الشجر والحجر ، والمدر وغيرها حتى قالا : لو ضرب بيده على الجمد والثلج أجزأه .
وذكر
الثعلبي عن
أبي حنيفة أنه يجيزه بالكحل ، والزرنيخ ، والنورة ، والجص ، والجوهر المسحوق ، ويمنعه بسحالة الذهب ، والفضة ، والنحاس ، والرصاص ، لأن
[ ص: 357 ] ذلك ليس من جنس الأرض .
وذكر
النقاش عن
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ،
وابن كيسان أنهما أجازاه بالمسك ، والزعفران ، وأبطل
ابن عطية هذا القول ، ومنعه
nindex.php?page=showalam&ids=12418إسحاق بن راهويه بالسباخ ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس نحوه ، وعنه فيمن
أدركه التيمم ، وهو في طين أنه يطلي به بعض جسده ، فإذا جف تيمم به ، قاله
القرطبي .
وأما
التراب المنقول في طبق أو غيره ، فالتيمم به جائز في مشهور مذهب
مالك ، وهو قول جمهور المالكية ، ومذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وأصحابه ، وعن بعض المالكية ، وجماعة من العلماء منعه .
وما طبخ كالجص ، والآجر ففيه أيضا خلاف عن المالكية ، والمنع أشهر .
واختلفوا أيضا في
التيمم على الجدار ، فقيل : جائز مطلقا ، وقيل : ممنوع مطلقا ، وقيل بجوازه للمريض دون غيره ، وحديث
أبي جهيم الآتي يدل على الجواز مطلقا .
والظاهر أن محله فيما إذا كان ظاهر الجدار من أنواع الصعيد ، ومشهور مذهب
مالك جواز
التيمم على المعادن غير الذهب ، والفضة ما لم تنقل ، وجوازه على الملح غير المصنوع ، ومنعه بالأشجار ، والعيدان ونحو ذلك ، وأجازه
أحمد ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري على اللبد ، والوسائد ; ونحو ذلك إذا كان عليه غبار .
والتيمم في اللغة : القصد ، تيممت الشيء قصدته ، وتيممت الصعيد تعمدته ، وأنشد
الخليل قول
عامر بن مالك ، ملاعب الأسنة : [ البسيط ]
يممته الرمح شزرا ثم قلت له هذي البسالة لا لعب الزحاليق
ومنه قول
امرئ القيس : [ الطويل ]
تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامي
وقول
أعشى باهلة : [ المتقارب ]
تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمة ذي شزن
وقول
حميد بن ثور : [ الطويل ]
سل الربع أنى يممت أم طارق وهل عادة للربع أن يتكلما
[ ص: 358 ] والتيمم في الشرع : القصد إلى الصعيد الطيب لمسح الوجه ، واليدين منه بنية استباحة الصلاة عند عدم الماء ، أو العجز عن استعماله ، وكون التيمم بمعنى القصد يدل على اشتراط النية في التيمم ، وهو الحق .