[ ص: 87 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العصر
قوله تعالى :
والعصر إن الإنسان لفي خسر .
العصر : اسم للزمن كله أو جزء منه .
ولذا اختلف في المراد منه ، حيث لم يبين هنا .
فقيل : هو الدهر كله ، أقسم الله به لما فيه من العجائب ، أمة تذهب وأمة تأتي ، وقدر ينفذ ، وآية تظهر ، وهو هو لا يتغير ، ليل يعقبه نهار ، ونهار يطرده ليل ، فهو في نفسه عجب .
كما قيل :
موجود شبيه المعدوم ، ومتحرك يضاهي الساكن .
كما قيل :
وأرى الزمان سفينة تجري بنا نحو المنون ولا نرى حركاته
فهو في نفسه آية ، سواء في ماضيه لا يعلم متى كان ، أو في حاضره لا يعلم كيف ينقضي ، أو في مستقبله .
واستدل لهذا القول بما جاء موقوفا على
علي رضي الله عنه ، ومرفوعا من قراءة شاذة : " والعصر ونوائب الدهر " . وحمل على التفسير إن لم يصح قرآنا ، وهذا المعنى مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
وعليه قول الشاعر :
سبيل الهوى وعر ، وبحر الهوى غمر ويوم الهوى شهر ، وشهر الهوى دهر
وقيل العصر : الليل والنهار .
[ ص: 88 ] قال
حميد بن ثور :
ولم يلبث العصران يوم ليلة إذا طلبا أن يدركا ما يتمما
والعصران أيضا : الغداة والعشي .
كما قيل :
وأمطله العصرين حتى يملني ويرضى بنصف الدين والأنف راغم
والمطل : التسويف وتأخير الدين .
كما قيل :
قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزه ممطول معنى غريمها
وقيل : إن العشي ما بعد زوال الشمس إلى غروبها ، وهو قول
الحسن وقتادة .
ومنه قول الشاعر :
تروح بنا يا عمرو قد قصر العصر وفي الروحة الأولى الغنيمة والأجر
وعن
قتادة أيضا : هو آخر ساعة من ساعات النهار ، لتعظيم اليمين فيه ، وللقسم بالفجر والضحى .
وقيل : هو صلاة العصر لكونها الوسطى .
وقيل : عصر النبي صلى الله عليه وسلم أو زمن أمته ; لأنه يشبه عصر عمر الدنيا .
والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن أقرب هذه الأقوال كلها قولان : إما العموم بمعنى الدهر للقراءة الشاذة ، إذ أقل درجاتها التفسير ، ولأنه يشمل بعمومه بقية الأقوال .
وإما عصر الإنسان أي عمره ومدة حياته الذي هو محل الكسب والخسران لإشعار السياق ، ولأنه يخص العبد في نفسه موعظة وانتفاعا .
ويرجح هذا المعنى ما يكتنف هذه السورة من سور التكاثر قبلها ، والهمزة بعدها ، إذ الأولى تذم هذا التلهي والتكاثر بالمال والولد ، حتى زيارة المقابر بالموت ، ومحل ذلك هو حياة الإنسان .
[ ص: 89 ] وسورة الهمزة في نفس المعنى تقريبا ، في "
الذي جمع مالا وعدده ،
يحسب أن ماله أخلده " . [ 104 \ 2 - 3 ]
فجمع المال وتعداده في حياة الإنسان ، وحياته محدودة ، وليس مخلدا في الدنيا ، كما أن الإيمان وعمل الصالحات مرتبط بحياة الإنسان .
وعليه ، فإما أن يكون المراد بالعصر في هذه السورة العموم لشموله الجميع وللقراءة الشاذة ، وهذا أقواها .
وإما حياة الإنسان ، لأنه ألزم له في عمله ، وتكون كل الإطلاقات الأخرى من إطلاق الكل ، وإرادة البعض ، والله تعالى أعلم .
وقوله :
إن الإنسان لفي خسر .
لفظ الإنسان وإن كان مفردا ، فإن أل فيه جعلته للجنس .
وقد بينه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب ، وتقدم التنبيه عليه مرارا ، فهو شامل للمسلم والكافر ، إلا من استثنى الله تعالى .
وقيل : خاص بالكافر ، والأول أرجح للعموم .
و "
إن الإنسان لفي خسر " جواب القسم ، والخسر : قيل : هو الغبن ، وقيل : النقص ، وقيل : العقوبة ، وقيل : الهلكة ، والكل متقارب .
وأصل الخسر والخسران كالكفر والكفران ، النقص من رأس المال ، ولم يبين هنا نوع الخسران في أي شيء ، بل أطلق ليعم ، وجاء بحرف الظرفية ، ليشعر أن الإنسان مستغرق في الخسران ، وهو محيط به من كل جهة .
ولو نظرنا إلى أمرين وهما المستثنى والسورة التي قبلها ، لاتضح هذا العموم ; لأن مفهوم المستثنى يشمل أربعة أمور : عدم الإيمان وهو الكفر ، وعدم العمل الصالح وهو العمل الفاسد ، وعدم التواصي بالحق وهو انعدام التواصي كلية أو التواصي بالباطل ، وعدم التواصي بالصبر ، وهو إما انعدام التواصي كلية أو الهلع والجزع .
والسورة التي قبلها تلهي الإنسان بالتكاثر في المال والولد ، بغية الغنى والتكثر فيه ، وضده ضياع المال والولد وهو الخسران .
[ ص: 90 ] فعليه يكون الخسران في الدين من حيث الإيمان بسبب الكفر ، وفي الإسلام وهو ترك العمل ، وإن كان يشمله الإيمان في الاصطلاح والتلهي في الباطل وترك الحق ، وفي الهلع والفزع .
ومن ثم ترك الأمر والنهي بما فيه مصلحة العبد وفلاحه وصلاح دينه ودنياه ، وكل ذلك جاء في القرآن ما يدل عليه نجمله في الآتي :
أما الخسران بالكفر . فكما في قوله تعالى .
لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [ 39 \ 65 ] .
وقوله :
قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ، أي : لأنهم لم يعملوا لهذا اللقاء ، وقصروا أمرهم في الحياة الدنيا فضيعوا أنفسهم ، وحظهم في الآخرة .
وأما الخسران بترك العمل ، فكما في قوله تعالى :
ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم [ 7 \ 9 ] ، لأن الموازين هي معايير الأعمال كما تقدم :
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره [ 99 \ 7 ] .
ومثله :
ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا [ 4 \ 119 ] ، لأنه سيكون من حزب الشيطان
ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون [ 58 \ 19 ] ، أي بطاعتهم إياه في معصية الله .
وأما الخسران بترك التواصي بالحق فليس بعد الحق إلا الضلال ، والحق هو الإسلام بكامله ، وقد قال تعالى :
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [ 3 \ 85 ] .
وأما الخسران بترك التواصي بالصبر والوقوع في الهلع والفزع ، فكما قال تعالى :
ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [ 22 \ 11 ] .