وإذا عرفت مما ذكرنا تفصيل مفهوم قوله تعالى :
أنه من قتل نفسا بغير نفس الآية . فاعلم أن مفهوم قوله :
أو فساد في الأرض [ 5 \ 32 ] ، هو المذكور في قوله تعالى :
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض [ 5 \ 33 ] .
قال
ابن كثير في تفسيره :
المحاربة هي المخالفة والمضادة ، وهي صادقة على الكفر ، وعلى قطع الطريق ، وإخافة السبيل ، وكذا الإفساد في الأرض ، يطلق على أنواع
[ ص: 394 ] من الشر ، وقد قال الله تعالى :
وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد [ 2 \ 205 ] .
فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن
المحارب الذي يقطع الطريق ، ويخيف السبيل ، ذكر الله أن جزاءه واحدة من أربع خلال هي : أن يقتلوا ، أو يصلبوا ، أو تقطع أيديهم ، وأرجلهم من خلاف ، أو ينفوا من الأرض ، وظاهر هذه الآية الكريمة : أن
الإمام مخير فيها ، يفعل ما شاء منها بالمحارب ، كما هو مدلول ، أو لأنها تدل على التخيير .
ونظيره في القرآن قوله تعالى :
ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ 2 \ 196 ] ، وقوله تعالى :
فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة [ 5 \ 89 ] ، وقوله تعالى :
فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما [ 5 \ 95 ] .
وكون الإمام مخيرا بينهما مطلقا من غير تفصيل ، هو مذهب
مالك ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب ،
ومجاهد ،
وعطاء ،
nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن البصري ،
nindex.php?page=showalam&ids=12354وإبراهيم النخعي ،
والضحاك ، كما نقله عنهم
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ، وغيره ، وهو رواية
nindex.php?page=showalam&ids=16405ابن أبي طلحة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، ونقله
القرطبي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11956أبي ثور ،
nindex.php?page=showalam&ids=15990وسعيد بن المسيب ،
nindex.php?page=showalam&ids=16673وعمر بن عبد العزيز ،
ومجاهد ،
والضحاك ،
والنخعي ،
ومالك ، وقال : وهو مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
ورجح المالكية هذا القول بأن اللفظ فيه مستقل غير محتاج إلى تقدير محذوف ، لأن اللفظ إذا دار بين الاستقلال ، والافتقار إلى تقدير محذوف ، فالاستقلال مقدم ; لأنه هو الأصل ، إلا بدليل منفصل على لزوم تقدير المحذوف ، وإلى هذا أشار في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]
كذاك ما قابل ذا اعتلال من التأصل والاستقلال
إلى قوله : [ الرجز ]
كذاك ترتيب لإيجاب العمل بما له الرجحان مما يحتمل
والرواية المشهورة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، أن هذه الآية منزلة على أحوال ، وفيها قيود مقدرة ، وإيضاحه : أن المعنى أن يقتلوا إذا قتلوا ، ولم يأخذوا المال ، أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال ، أو تقطع أيديهم ، وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا ولم يقتلوا أحدا ،
[ ص: 395 ] أو ينفوا من الأرض ، إذا أخافوا السبيل ، ولم يقتلوا أحدا ، ولم يأخذوا مالا ، وبهذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ،
وأحمد ،
وأبو مجلز ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=12354وإبراهيم النخعي ،
والحسن ،
وقتادة ،
والسدي ،
nindex.php?page=showalam&ids=16566وعطاء الخراساني ، وغير واحد من السلف والأئمة .
قاله
ابن كثير ، ونقله
القرطبي ،
nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
وأبي مجلز ،
nindex.php?page=showalam&ids=16566وعطاء الخراساني ، وغيرهم .
ونقل
القرطبي ، عن
أبي حنيفة ، إذا قتل قتل ، وإذا أخذ المال ولم يقتل ، قطعت يده ورجله من خلاف ، وإذا أخذ المال وقتل ، فالسلطان مخير فيه إن شاء قطع يده ورجله ، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه ، ولا يخفى أن الظاهر المتبادر من الآية ، هو القول الأول ; لأن
الزيادة على ظاهر القرآن بقيود تحتاج إلى نص من كتاب ، أو سنة ، وتفسير الصحابي لهذا بذلك ، ليس له حكم الرفع ، لإمكان أن يكون عن اجتهاد منه ، ولا نعلم أحدا روى في تفسير هذه الآية بالقيود المذكورة ، خبرا مرفوعا ، إلا ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير في تفسيره عن
أنس :
حدثنا
علي بن سهل ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15500الوليد بن مسلم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16457ابن لهيعة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17346يزيد بن أبي حبيب : أن
nindex.php?page=showalam&ids=16491عبد الملك بن مروان كتب إلى
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك ، يسأله عن هذه الآية ، فكتب إليه
أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر
العرنيين ، إلى أن قال : قال
أنس :
فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عن القضاء فيمن حارب ، فقال : من سرق ، وأخاف السبيل ، فاقطع يده بسرقته ، ورجله بإخافته ، ومن قتل فاقتله ، ومن قتل وأخاف السبيل ، واستحل الفرج الحرام ، فاصلبه " ، وهذا الحديث لو كان ثابتا لكان قاطعا للنزاع ، ولكن فيه
nindex.php?page=showalam&ids=16457ابن لهيعة ، ومعلوم أنه خلط بعد احتراق كتبه ، ولا يحتج به ، وهذا الحديث ليس راويه عنه
nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك ، ولا
ابن وهب ; لأن روايتهما عنه أعدل من رواية غيرهما ،
nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير نفسه يرى عدم صحة هذا الحديث الذي ساقه ; لأنه قال في سوقه للحديث المذكور : وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتصحيح ما قلنا في ذلك بما في إسناده نظر ، وذلك ما حدثنا به
علي بن سهل ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15500الوليد بن مسلم ، إلى آخر الإسناد الذي قدمنا آنفا ، وذكرنا معه محل الغرض من المتن ، ولكن هذا الحديث ، وإن كان ضعيفا ، فإنه يقوي هذا القول الذي عليه أكثر أهل العلم ، ونسبه
ابن كثير للجمهور .
واعلم أن
الصلب المذكور في قوله : أو يصلبوا ، اختلف فيه العلماء ، فقيل : يصلب حيا ، ويمنع من الشراب والطعام حتى يموت ، وقيل : يصلب حيا ، ثم يقتل برمح
[ ص: 396 ] ونحوه ، مصلوبا ، وقيل : يقتل أولا ، ثم يصلب بعد القتل ، وقيل : ينزل بعد ثلاثة أيام ، وقيل : يترك حتى يسيل صديده ، والظاهر أنه يصلب بعد القتل زمنا يحصل فيه اشتهار ذلك ; لأن صلبه ردع لغيره .
وكذلك قوله :
أو ينفوا من الأرض ، اختلف العلماء في
المراد بالنفي فيه أيضا ، فقال بعضهم : معناه أن يطلبوا حتى يقدر عليهم ، فيقام عليهم الحد ، أو يهربوا من دار الإسلام ، وهذا القول رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=9وأنس بن مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ،
والضحاك ،
nindex.php?page=showalam&ids=14354والربيع بن أنس ،
nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري ،
nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث بن سعد ،
nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك بن أنس .
وقال آخرون : هو أن ينفوا من بلدهم إلى بلد آخر ، أو يخرجهم السلطان ، أو نائبه ، من عمالته بالكلية ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ،
وأبو الشعثاء ،
والحسن ،
nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري ،
والضحاك ،
nindex.php?page=showalam&ids=17132ومقاتل بن حيان ، إنهم ينفون ، ولا يخرجون من أرض الإسلام .
وذهب جماعة إلى أن المراد بالنفي في الآية السجن ، لأنه نفي من سعة الدنيا إلى ضيق السجن ، فصار المسجون كأنه منفي من الأرض ، إلا من موضع استقراره ، واحتجوا بقول بعض المسجونين في ذلك : [ الطويل ]
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
وهذا قول
أبي حنيفة وأصحابه ، ولا يخفى عدم ظهوره .
واختار
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ، أن المراد بالنفي في هذه الآية ، أن يخرج من بلده إلى بلد آخر ، فيسجن فيه ، وروي نحوه عن
مالك أيضا ، وله اتجاه ; لأن التغريب عن الأوطان نوع من العقوبة ، كما يفعل بالزاني البكر ، وهذا أقرب الأقوال لظاهر الآية ; لأنه من المعلوم إنه لا يراد نفيهم من جميع الأرض إلى السماء ، فعلم أن المراد بالأرض أوطانهم التي تشق عليهم مفارقتها ، والله تعالى أعلم .