قوله تعالى : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين الآية .
هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن تدل على أن
إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لم يكن مشركا يوما ما ، لأن نفي الكون الماضي في قوله :
وما كان من المشركين يدل على استغراق النفي لجميع الزمن الماضي كما دل عليه قوله تعالى :
ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل الآية [ 21 \ 15 ] .
وقد جاء في موضع آخر ما يوهم خلاف ذلك وهو قوله :
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون الآية [ 6 - 78 ] .
ومن ظن ربوبية غير الله فهو مشرك بالله كما دل عليه قوله تعالى عن الكفار
وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [ 10 \ 66 ] .
والجواب عن هذا من وجهين : أحدهما أنه مناظر لا ناظر ومقصوده التسليم الجدلي أي : هذا ربي على زعمكم الباطل ، والمناظر قد يسلم المقدمة الباطلة تسليما جدليا ليفحم بذلك خصمه .
فلو قال لهم
إبراهيم في أول الأمر : الكوكب مخلوق لا يمكن أن يكون ربا ، لقالوا له ، كذبت ، بل الكوكب رب ومما يدل لكونه مناظرا لا ناظرا :
قوله تعالى :
وحاجه قومه [ 6 \ 80 ] .
وهذا الوجه هو الأظهر ، وما استدل به
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير على أنه غير مناظر من قوله تعالى :
[ ص: 234 ] لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين [ 6 \ 77 ] .
لا دليل فيه على التحقيق لأن الرسل يقولون مثل ذلك تواضعا وإظهارا لالتجائهم إلى الله ، كقول
إبراهيم :
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ 14 \ 35 ] ، وقوله هو
وإسماعيل :
ربنا واجعلنا مسلمين لك الآية [ 2 \ 128 ] .
الوجه الثاني : أن الكلام على حذف همزة الاستفهام أي : أهذا ربي ؟ وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها جائز ، وهو قياسي عند
الأخفش مع أم ودونها ذكر الجواب أم لا ، فمن أمثلته دون أم ودون ذكر الجواب قول
nindex.php?page=showalam&ids=15102الكميت :
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب
يعني أو ذو الشيب يلعب ؟ وقول
أبي خراش الهذلي واسمه خويلد :
رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
يعني أهم هم ، كما هو الصحيح ، وجزم به
الألوسي في تفسيره ، وذكره
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن جماعة ويدل له قوله : وأنكرت الوجوه .
ومن أمثلته دون أم مع ذكر الجواب ، قول
nindex.php?page=showalam&ids=16675عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
ثم قالوا تحبها قلت بهرا عدد النجم والحصى والتراب
يعني أتحبها على القول الصحيح وهو مع أم كثير جدا ، ومن أمثلته قول
الأسود بن يعفر التميمي وأنشده
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه لذلك :
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
يعني
أشعيث بن سهم ؟ وقول
nindex.php?page=showalam&ids=16675ابن أبي ربيعة المخزومي :
بدا لي منها معصم يوم جمرت وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميت الجمر أم بثمان
يعني أبسبع ، وقول
الأخطل :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا
[ ص: 235 ] يعني أكذبتك عينك ؟ كما نص
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه على جواز ذلك في بيت
الأخطل هذا وإن خالف
الخليل زاعما أن كذبتك صيغة خبرية ، وأن أم بمعنى بل ، ففي البيت على قول
الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي ، يسمى بالرجوع عند البلاغيين .
وقول
الخنساء :
قذى بعينيك أم بالعين عوار أم خلت إذ أقفرت من أهلها الدار
تعني أقذى بعينيك ؟ وقول
أحيحة بن الجلاح الأنصاري :
وما تدري وإن ذمرت سقبا لغيرك أم يكون لك الفصيل
يعني ألغيرك ؟ وقول
امرئ القيس :
تروح من الحي أم تبتكر وماذا عليك بأن تنتظر
يعني أتروح ؟ .
وعلى هذا القول فقرينة الاستفهام المحذوف علو مقام
إبراهيم عن ظن ربوبية غير الله وشهادة القرآن له بالبراءة من ذلك ، والآية على هذا القول تشبه قراءة
ابن محيصن : (
سواء عليهم أنذرتهم ) [ 2 \ 6 ] ونظيرها على هذا القول قوله تعالى :
أفإن مت فهم الخالدون [ 21 ] يعني أفهم الخالدون ؟ .
وقوله تعالى :
وتلك نعمة تمنها [ 26 22 ] ، على أحد القولين ، وقوله :
فلا اقتحم العقبة [ 90 \ 11 ] ، على أحد القولين .
وما ذكره بعض العلماء غير هذين الوجهين فهو راجع إليهما كالقول بإضمار القول ، أي يقول الكفار هذا ربي ، فإنه راجع إلى الوجه الأول .
وأما ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق واختاره
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير الطبري ونقله عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس من أن
إبراهيم كان ناظرا يظن ربوبية الكوكب فهو ظاهر الضعف ، لأن نصوص القرآن ترده كقوله :
ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين [ 3 \ 67 ] . وقوله تعالى :
ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين [ 16 \ 123 ] ، وقوله :
ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل [ 21 \ 51 ] .
[ ص: 236 ] وقد بين المحقق
ابن كثير في تفسيره رد ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير بهذه النصوص القرآنية وأمثالها ، والأحاديث الدالة على مقتضاها كقوله صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009620كل مولود يولد على الفطرة " الحديث .