قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين الآية .
هذه الآية تدل بعمومها على منع الجمع بين كل أختين سواء كانتا بعقد أم بملك يمين ، وقد جاءت آية تدل بعمومها على جواز جمع الأختين بملك اليمين وهي قوله تعالى في سورة " قد أفلح " وسورة " سأل سائل " :
والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين [ 23 \ 5 - 6 ] .
فقوله :
وأن تجمعوا بين الأختين اسم مثنى محلى بأل والمحلى بها من صيغ العموم كما تقرر خرجه في علم الأصول ، وقوله :
أو ما ملكت أيمانهم اسم موصول وهو أيضا من صيغ العموم ، كما تقرر في علم الأصول أيضا .
فبين هاتين الآيتين عموم وخصوص من وجه يتعارضان بحسب ما يظهر في صورة هي جمع الأختين بملك اليمين ، فيدل عموم
وأن تجمعوا بين الأختين على التحريم ، وعموم :
أو ما ملكت أيمانهم على الإباحة ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان رضي الله عنه : أحلتهما آية وحرمتهما أخرى .
وحاصل تحرير الجواب عن هاتين الآيتين أنهما لا بد أن يخصص عموم إحداهما بعموم الأخرى ، فيلزم الترجيح بين العمومين ، والراجح منهما يقدم ويخصص به عموم الآخر لوجوب العمل بالراجح إجماعا ، وعليه فعموم : وأن
تجمعوا بين الأختين ، أرجح من عموم :
أو ما ملكت أيمانهم من خمسة أوجه :
الأول : أن عموم :
وأن تجمعوا بين الأختين نص في محل المدرك المقصود
[ ص: 247 ] بالذات لأن السورة سورة " النساء " وهي التي بين الله فيها من تحل منهن ومن تحرم ، وآية
أو ما ملكت أيمانهم لم تذكر من أجل تحريم النساء ولا تحليلهن ، بل ذكر الله صفات المتقين ، فذكر من جملتها حفظ الفرج ، فاستطرد أنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والسرية ، وقد تقرر في الأصول أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها لا من مظانها .
الثاني : أن آية :
أو ما ملكت أيمانهم ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين لأن الأخت من الراضع لا تحل بملك اليمين إجماعا للإجماع على أن عموم
أو ما ملكت أيمانهم يخصصه عموم :
وأخواتكم من الرضاعة [ 4 23 ] ، وموطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعا للإجماع على أن عموم :
أو ما ملكت أيمانهم يخصصه
ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية [ 4 22 ] .
والأصح عن الأصوليين في تعارض العام الذي دخله التخصيص مع العام الذي لم يدخله التخصيص هو تقديم الذي لم يدخله التخصيص ووجهه ظاهر .
الثالث : أن عموم :
وأن تجمعوا بين الأختين غير وارد في معرض مدح ولا ذم ، وعموم
أو ما ملكت أيمانهم وارد في معرض مدح المتقين .
والعام الوارد في معرض المدح أو الذم اختلفت العلماء في اعتبار عمومه ، فأكثر العلماء على أن عمومه معتبر كقوله :
إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم [ 82 \ 13 - 14 ] ، فإنه يعم كل بر مع أنه للمدح ، وكل فاجر مع أنه للذم .
وخالف في ذلك بعض العلماء منهم الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله قائلا : إن العام الوارد في معرض المدح أو الذم لا عموم له ، لأن المقصود منه الحث في المدح والزجر في الذم .
ولذا لم يأخذ الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي بعموم قوله تعالى :
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله [ 9 ] ، في الحلي المباح لأن الآية سيقت للذم فلا تعم عنده الحلي المباح ، فإذا حققت ذلك فاعلم أن العام الذي لم يقترن بما يمنع اعتبار عمومه أولى من المقترن بما يمنع اعتبار عمومه عند بعض العلماء .
الرابع : أنا لو سلمنا المعارضة بين الآيتين فالأصل في الفروج التحريم ، حتى يدل دليل لا معارض له على الإباحة .
[ ص: 248 ] الخامس : أن العموم المقتضي للتحريم أولى من المقتضي للإباحة لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله في سورة " المائدة " ، والعلم عند الله تعالى .
فهذه الأوجه الخمسة التي بينا يرد بها استدلال
nindex.php?page=showalam&ids=15858داود الظاهري بهذه الآية الكريمة على جمع الأختين في الوطء بملك اليمين ولكنه يحتج بآية أخرى وهي قوله تعالى :
إلا ما ملكت أيمانكم [ 4 \ 24 ] ، فإنه يقول : الاستثناء راجع أيضا إلى قوله :
وأن تجمعوا بين الأختين فيكون المعنى على قوله : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما ملكت أيمانكم ، فإنه لا يحرم فيه الجمع بين الأختين .
ورجوع الاستثناء لكل ما قبله من المتعاطفات جملا كانت أو مفردات هو الجاري على أصول
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وأحمد ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود [ الرجز ] :
وكل ما يكون فيه العطف من قبل الاستثناء فكلا يقف
دون دليل العقل أو ذي السمع .
خلافا
لأبي حنيفة القائل برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط ، ولذلك لا يرى قبول
شهادة القاذف ولو تاب وأصلح لأن قوله تعالى :
إلا الذين تابوا [ 24 \ 5 ] ، يرجع عنده لقوله تعالى :
وأولئك هم الفاسقون [ 24 \ 4 ] ، فقط أي
إلا الذين تابوا ، فقد زال فسقهم بالتوبة ولا يقول برجوعه لقوله : ولا تقبلوا لهم شهادة إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم ، بل يقول : لا تقبلوها لهم مطلقا لاختصاص الاستثناء بالأخيرة عنده .
ولم يخالف
أبو حنيفة أصله في قوله برجوع الاستثناء في قوله تعالى :
إلا من تاب وآمن وعمل صالحا [ 25 \ 70 ] ، لجميع الجمل قبله أعني قوله :
والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون [ 25 \ 68 ] ، لأن جميع هذه الجمل معناها في الجملة الأخيرة وهي قوله تعالى :
ومن يفعل ذلك يلق أثاما [ 25 \ 68 ] ، لأن الإشارة في قوله : " ذلك " شاملة لكل من الشرك والقتل والزنى ، فبرجوعه للأخيرة رجع للكل ، فظهر أن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبا حنيفة لم يخالف فيها أصله .
[ ص: 249 ] ولأجل هذا الأصل المقرر في الأصول لو قال رجل : هذه الدار حبس على الفقراء والمساكين
وبني زهرة وبني تميم إلا الفاسق منهم ، فإنه يخرج فاسق الكل عند المالكية والشافعية والحنابلة خلافا للحنفية القائلين يخرج فاسق الأخيرة فقط .
وعلى هذا ، فاحتجاج
nindex.php?page=showalam&ids=15858داود الظاهري بهذه الآية الأخيرة جار على أصول المالكية والشافعية والحنابلة .
قال مقيده عفا الله عنه : التحقيق في هذه المسألة هو ما حققه بعض المتأخرين
كابن الحاجب من المالكية
nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي من الشافعية
nindex.php?page=showalam&ids=14552والآمدي من الحنابلة من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف ، وأن لا يحكم برجوعه إلى الجميع ولا إلى الأخيرة ، وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق ، لأن الله تعالى يقول :
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ 4 \ 59 ] .
وإذا رددنا هذا النزاع إلى الله وجدنا القرآن دالا على قول هؤلاء ، الذي ذكرنا أنه هو التحقيق في آيات كثيرة منها قوله تعالى :
فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا [ 4 \ 92 ] ، فالاستثناء راجع للدية فهي تسقط بتصدق مستحقها بها ولا يرجع لتحرير الرقبة قولا واحدا لأن تصدق مستحق الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ ، ومنها قوله تعالى :
فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا [ 24 4 - 5 ] .
فالاستثناء لا يرجع لقوله :
فاجلدوهم ثمانين جلدة لأن القاذف إذا تاب لا تسقط توبته حد القذف .
ومنها أيضا قوله تعالى :
فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق [ 4 \ 89 - 95 ] .
فالاستثناء في قوله :
إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق لا يرجع قولا واحدا إلى الجملة الأخيرة التي هي أقرب الجمل إليه ، أعني قوله تعالى :
ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار ، ولو وصلوا إلى قوم
[ ص: 250 ] بينكم وبينهم ميثاق ، بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله :
فخذوهم واقتلوهم والمعنى فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فليس لكم أخذهم بأسر ولا قتلهم لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم وقتلهم ، كما اشترطه
هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذه الآية نزلت فيه وفي
سراقة بن مالك المدلجي وفي
بني جذيمة بن عامر .
وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع لأقرب الجمل إليه في القرآن العظيم الذي هو في الطرف الأعلى من الإعجاز ، تبين أنه ليس نصا في الرجوع إلى غيرها .
ومنها أيضا قوله تعالى :
ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا [ 4 \ 83 ] .
فالاستثناء ليس راجعا للجملة الأخيرة التي يليها أعني :
ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان لأنه لولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان كلا ولم ينج من ذلك قليل ولا كثير حتى يخرج بالاستثناء .
واختلف العلماء في مرجع هذا الاستثناء فقيل راجع لقوله :
أذاعوا به [ 4 \ 83 ] . وقيل راجع لقوله :
لعلمه الذين يستنبطونه منهم [ 4 \ 83 ] ، وإذا لم يرجع للجملة التي تليها فلا يكون نصا في رجوعه لغيرها ، وقيل إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليها فلا يكون نصا في رجوعه لغيرها وقيل إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليها .
وعليه فالمعنى :
ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال
محمد لاتبعتم الشيطان في ملة آبائكم من الكفر وعبادة الأوثان إلا قليلا . كمن كان على ملة
إبراهيم كورقة بن نوفل وزيد بن نفيل وقس بن ساعدة وأضرابهم ، وذكر
ابن كثير أن
عبد الرزاق روى عن
معمر عن
قتادة في قوله :
لاتبعتم الشيطان إلا قليلا أن معناه لاتبعتم الشيطان كلا . قال : والعرب تطلق القلة وتريد بها العدم . واستدل قائل هذا القول بقول
الطرماح بن حكيم يمدح
nindex.php?page=showalam&ids=17357يزيد بن المهلب [ المتقارب ] :
أشم ندي كثير النوادي قليل المثالب والقادحه
يعني لا مثلبة فيه ولا قادحة .
[ ص: 251 ] قال مقيده عفا الله عنه : إطلاق القلة وإرادة العدم كثيرة في كلام العرب ومنه قول الشاعر :
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة قليل بها الأصوات إلا بغامها
يعني أنه لا صوت في تلك الفلاة غير بغام راحلته ، وقول الآخر :
فما بأس لو ردت علينا تحية قليلا لدى من يعرف الحق عابها
يعني لا عاب فيها عند من يعرف الحق ، وعلى هذين القولين الأخيرين فلا شاهد في الآية . وبهذا التحقيق الذي حررنا يرد استدلال
nindex.php?page=showalam&ids=15858داود الظاهري بهذه الآية الأخيرة أيضا ، والعلم عند الله تعالى .