صفحة جزء
[ ص: 291 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنفال

قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية .

هذه الآية تدل على أن وجل القلوب عند سماع ذكر الله من علامات المؤمنين .

وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك وهي قوله : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ 13 \ 28 ] .

فالمنافاة بين الطمأنينة ووجل القلوب ظاهرة .

والجواب عن هذا أن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد ، والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] ، وقوله تعالى : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا الآية [ 13 \ 8 ] .

وقوله تعالى : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [ 23 \ 60 ] .

قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الآية .

هذه الآية تدل بظاهرها على أن الاستجابة للرسول التي هي طاعته لا تجب إلا إذا دعانا لما يحيينا ، ونظيرها قوله تعالى : ولا يعصينك في معروف [ 60 \ 12 ] .

وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجوب اتباعه مطلقا من غير قيد ، قوله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، وقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ ص: 292 ] الآية [ 3 \ 31 ] . وقوله : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] .

والظاهر أن وجه الجمع ، والله تعالى أعلم ، أن آيات الإطلاق مبينة أنه صلى الله عليه وسلم لا يدعونا إلا لما يحيينا من خيري الدنيا والآخرة ، فالشرط المذكور في قوله : إذا دعاكم ، متوفر في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمكان عصمته ، كما دل عليه قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] .

والحاصل أن آية : إذا دعاكم لما يحييكم ، مبينة أنه لا طاعة إلا لمن يدعو إلى ما يرضي الله ، وأن الآيات الأخر بينت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو أبدا إلا إلى ذلك صلوات الله وسلامه عليه .

قوله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون هذه الآية الكريمة تدل على أن لكفار مكة أمانين يدفع الله عنهم العذاب بسببهما :

أحدهما : كونه صلى الله عليه وسلم فيهم لأن الله لم يهلك أمة ونبيهم فيهم .

والثاني : استغفارهم الله وقوله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام [ 8 ] ، يدل على خلاف ذلك .

والجواب من أربعة أوجه :

الأول : وهو اختيار ابن جرير نقله عن قتادة والسدي ، وابن زيد أن الأمانين منتفيان ، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج من بين أظهرهم مهاجرا واستغفارهم معدوم لإصرارهم على الكفر .

فجملة الحال أريد بها أن العذاب لا ينزل بهم في حالة استغفارهم لو استغفروا ولا في حالة وجود نبيهم فيهم ، لكنه خرج من بين أظهرهم ، ولم يستغفروا لكفرهم .

ومعلوم أن الحال قيد لعاملها وصف لصاحبها ، فالاستغفار مثلا قيد في نفي العذاب ، لكنهم لم يأتوا بالقيد ، فتقرير المعنى : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون لو استغفروا ، وبعد انتفاء الأمرين عذبهم بالقتل والأسر ، يوم بدر كما يشير [ ص: 293 ] إليه قوله تعالى : ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر [ 32 \ 21 ] .

الوجه الثاني : أن المراد بقوله : " يستغفرون " استغفار المؤمنين المستضعفين بمكة ، وعليه فالمعنى أنه بعد خروجه صلى الله عليه وسلم كان استغفار المؤمنين سببا لرفع العذاب الدنيوي عن الكفار المستعجلين للعذاب بقولهم : فأمطر علينا حجارة من السماء الآية [ 8 ] .

وعلى هذا القول فقد أسند الاستغفار إلى مجموع أهل مكة الصادق بخصوص المؤمنين منهم ، ونظير الآية عليه قوله تعالى : فعقروا الناقة [ 7 \ 77 ] ، ومع أن العاقر واحد منهم بدليل قوله تعالى : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] ، وقوله تعالى : ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 15 - 16 ] ، أي جعل القمر في مجموعهن الصادق بخصوص السماء التي فيها القمر ، لأنه لم يجعل في كل سماء قمرا ، وقوله تعالى : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم [ 6 \ 130 ] ، أي من مجموعكم الصادق بخصوص الإنس على الأصح ، إذ ليس من الجن رسل .

وأما تمثيل كثير من العلماء لإطلاق المجموع مرادا بعضه بقوله تعالى : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ 55 \ 22 ] ، زاعمين أن معنى قوله : " منهما " أي من مجموعهما الصادق بخصوص البحر الملح ، لأن العذب لا يخرج منه لؤلؤ ولا مرجان ، فهو قول باطل بنص القرآن العظيم .

فقد صرح تعالى باستخراج اللؤلؤ والمرجان من البحرين كليهما حيث قال : وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها [ 35 \ 12 ] .

فقوله تعالى : ومن كل ، نص صريح في إرادة العذب والملح معا ، وقوله : حلية تلبسونها هي اللؤلؤ والمرجان .

وعلى هذا القول فالعذاب الدنيوي يدفعه الله عنهم باستغفار المؤمنين الكائنين بين أظهرهم ، وقوله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله [ 8 ] . أي بعد خروج المؤمنين الذين كان استغفارهم سببا لدفع العذاب الدنيوي ، فبعد خروجهم عذب الله أهل [ ص: 294 ] مكة في الدنيا بأن سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم حتى فتح مكة ، ويدل لكونه تعالى يدفع العذاب الدنيوي عن الكفار بسبب وجود المسلمين بين أظهرهم ما وقع في صلح الحديبية كما بينه تعالى بقوله : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما [ 48 \ 25 ] .

فقوله : لو تزيلوا أي لو تزيل الكفار من المسلمين لعذبنا الكفار بتسليط المسلمين عليهم ، ولكنا رفعنا عن الكفار هذا العذاب الدنيوي لعدم تميزهم من المؤمنين ، كما بينه بقوله : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات الآية .

ونقل ابن جرير هذا القول عن ابن عباس والضحاك وأبي مالك وابن أبزى ، وحاصل هذا القول أن كفار مكة لما قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة الآية [ 8 ] . أنزل الله قوله : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم بقيت طائفة من المسلمين بمكة يستغفرون الله ويعبدونه ، فأنزل الله : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ، فلما خرجت بقية المسلمين من مكة أنزل الله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله [ 8 ] ، أي : أي شيء ثبت لهم يدفع عنهم الله ، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من بين أظهرهم ، فالآية على هذا كقوله : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم [ 9 \ 14 ] .

الوجه الثالث : أن المراد بقوله : وهم يستغفرون كفار مكة ، وعليه فوجه الجميع أن الله تعالى يرد عنهم العذاب الدنيوي بسبب استغفارهم ، أما عذاب الآخرة فهو واقع بهم لا محالة فقوله : وما كان الله ليعذبهم ، أي في الدنيا في حالة استغفارهم ، وقوله : وما لهم ألا يعذبهم الله أي في الآخرة ، وقد كانوا كفارا في الدنيا . ونقل ابن جرير هذا القول عن ابن عباس .

وعلى هذا القول فعمل الكافر ينفعه في الدنيا ، كما فسر به جماعة قوله تعالى : ووجد الله عنده فوفاه حسابه [ 24 \ 39 ] ، أي أثابه من عمله الطيب في الدنيا ، وهو صريح قوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها الآية [ 11 15 ] ، وقوله تعالى أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة [ 9 ] ، [ ص: 295 ] وقوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ونحو ذلك من الآيات يدل على بطلان عمل الكافر من أصله ، كما أوضحه تعالى بقوله : حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة [ 2 \ 217 ] ، فجعل كلتا الدارين ظرفا لبطلان أعمالهم واضمحلالها ، وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المقام في سورة " هود " .

الوجه الرابع : أن معنى قوله : وهم يستغفرون أي يسلمون ، أي : وما كان الله معذبهم ، وقد سبق في علمه أن منهم من يسلم ويستغفر الله من كفره ، وعلى هذا القول فقوله : وما لهم ألا يعذبهم الله ، في الذين سبقت لهم الشقاوة كأبي جهل وأصحابه الذين عذبوا بالقتل يوم بدر .

ونقل ابن جرير معنى هذا القول عن عكرمة ومجاهد ، وأما ما رواه ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري من أن قوله : وما لهم ألا يعذبهم الله ناسخ لقوله : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فبطلانه ظاهر ، لأن قوله تعالى : وما كان الله معذبهم الآية ، خبر من الله بعدم تعذيبه لهم في حالة استغفارهم ، والخبر لا يجوز نسخه شرعا بإجماع المسلمين ، وأظهر هذه الأقوال الأولان .

منها قوله تعالى : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين الآية [ 8 \ 65 ] .

ظاهر هذه الآية أن الواحد من المسلمين يجب عليه مصابرة عشرة من الكفار ، وقد ذكر تعالى ما يدل على خلاف ذلك بقوله : فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين الآية [ 8 \ 66 ] .

والجواب عن هذا ، أن الأول منسوخ بالثاني ، كما دل عليه قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم الآية [ 8 \ 66 ] ، والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا .

هذه الآية الكريمة تدل على أن من لم يهاجر لا ولاية بينه وبين المؤمنين حتى يهاجر ، وقد جاءت آية أخرى يفهم منها خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى [ ص: 296 ] والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] . فإنها تدل على ثبوت الولاية بين المؤمنين وظاهرها العموم .

والجواب من وجهين :

الأول : أن الولاية المنفية في قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء هي ولاية الميراث ، أي ما لكم شيء من ميراثهم حتى يهاجروا لأن المهاجرين والأنصار كانوا يتوارثون بالمؤاخاة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم ، فمن مات من المهاجرين ورثه أخوه الأنصاري دون أخيه المؤمن ، الذي لم يهاجر ، حتى نسخ ذلك بقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض الآية [ 8 ] .

وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، كما نقله عنهم أبو حيان وابن جرير ، والولاية في قوله : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، ولاية النصر والمؤازرة والتعاون والتعاضد ، لأن المسلمين كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وكالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .

وهذه الولاية لم تقصد بالنفي في قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء بدليل تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه : وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر الآية [ 8 ] ، فأثبت ولاية النصر بينهم بعد قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء يدل على أن الولاية المنفية غير ولاية النصر ، فظهر أن الولاية المنفية غير المثبتة ، فارتفع الإشكال .

الثاني : هو ما اقتصر عليه ابن كثير مستدلا عليه بحديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم أن معنى قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء يعني لا نصيب لكم في المغانم ولا في خمسها إلا فيما حضرتم فيه القتال ، وعليه فلا إشكال في الآية ، ولا مانع من تناول الآية للجميع ، فيكون المراد بها نفي الميراث بينهم ، ونفي القسم لهم في الغنائم والخمس .

التالي السابق


الخدمات العلمية