[ ص: 310 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعد
قوله تعالى : إنما أنت منذر ولكل قوم هاد .
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن لكل قوم هاديا ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن بعض الأقوام لم يكن لهم هاد ، سواء فسرنا الهدى بمعناه الخاص أو بمعناه العام ، فمن الآيات الدالة على أن بعض الناس لم يكن لهم هاد بالمعنى الخاص ، قوله تعالى :
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك [ 6 \ 116 ] ، فهؤلاء المضلون لم يهدهم هاد الهدى الخاص ، الذي هو التوفيق ، لما يرضي الله ، ونظيرها قوله تعالى :
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون [ 11 \ 17 ] ، وقوله :
وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [ 12 \ 103 ] ، وقوله :
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ومن الآيات الدالة على أن بعض الأقوام لم يكن لهم هاد بالمعنى العام ، الذي هو إبانة الطريق ، قوله تعالى :
لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 \ 6 ] ، بناء على التحقيق من أن " ما " نافية لا موصولة وقوله تعالى :
ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل الآية [ 5 \ 19 ] .
فالذين ماتوا في هذا الفترة ، لم يكن لهم هاد بالمعنى الأعم أيضا .
والجواب عن هذا من أربعة أوجه :
الأول : أن معنى قوله :
ولكل قوم هاد أي داع يدعوهم ويرشدهم إما إلى خير كالأنبياء ، وإما إلى شر كالشياطين ، أي وأنت يا رسول الله منذر هاد إلى كل خير ، وهذا القول مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس من طريق
علي بن أبي طلحة ، وقد جاء في القرآن استعمال الهدى في الإرشاد إلى الشر أيضا كقوله تعالى :
كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ ص: 311 ] [ 22 \ 4 ] ، وقوله تعالى :
فاهدوهم إلى صراط الجحيم [ 37 \ 23 ] ، وقوله تعالى :
ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم [ 4 \ 168 ] ، كما جاء في القرآن أيضا إطلاق الإمام على الداعي إلى الشر في قوله :
وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار الآية [ 28 \ 41 ] .
الثاني : أن معنى الآية ، أنت يا
محمد - صلى الله عليه وسلم - منذر ، وأنا هادي كل قوم ، ويروى هذا عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس من طريق العوفي وعن
محمد nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد ، قاله
ابن كثير .
وعلى هذا القول فقوله :
ولكل قوم هاد يعني به نفسه جل وعلا ، ونظيره في القرآن قوله تعالى :
ولا ينبئك مثل خبير [ 35 \ 14 ] ، يعني نفسه ، كما قاله
قتادة ، ونظيره من كلام العرب قول
قتادة بن سلمة الحنفي :
ولئن بقيت لأرحلن بغزوة تحوي الغنائم أو يموت كريم
يعني نفسه .
وسيأتي تحرير هذا المبحث إن شاء الله في سورة " القارعة " ، وتحرير المعنى على هذا القول : أنت يا
محمد منذر وأنا هادي كل قوم سبقت لهم السعادة والهدى في علمي ، لدلالة آيات كثيرة على أنه تعالى هدى قوما وأضل آخرين ، على وفق ما سبق به العلم الأزلي ، كقوله تعالى :
إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل [ 16 \ 37 ] .
الثالث : أن معنى
ولكل قوم هاد أي قائد ، والقائد الإمام ، والإمام العمل ، قاله
أبو العالية ، كما نقله عنه
ابن كثير .
وعلى هذا القول فالمعنى : ولكل قوم عمل يهديهم إلى ما هم صائرون إليه من خير وشر ، ويدل لمعنى هذا الوجه قوله تعالى : "
هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت " [ 10 \ 30 ] ، على قراءة من قرأها بتائين بمعنى تتبع كل نفس ما أسلفت من خير وشر .
وأما على القول بأن معنى : " تتلو " ، تقرأ في كتاب عملها ما قدمت من خير وشر
[ ص: 312 ] فلا دليل في الآية . ويدل له أيضا حديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009962لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت الحديث .
الرابع : وبه قال
مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد : إن المراد بالقوم الأمة والمراد بالهادي النبي ، فيكون معنى قوله :
ولكل قوم هاد أي ولكل أمة نبي ، كقوله تعالى :
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [ 35 \ 24 ] ، وقوله :
ولكل أمة رسول [ 10 \ 47 ] .
وكثيرا ما يطلق في القرآن اسم القوم على الأمة ، كقوله :
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه [ 11 \ 25 ] ، وقوله :
وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم [ 7 \ 65 ] ، وقوله :
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم [ 7 \ 73 ] ، ونحو ذلك .
وعلى هذا القول فالمراد بالقوم في قوله :
ولكل قوم هاد أعم من مطلق ما يصدق عليه اسم القوم لغة ، ومما يوضح ذلك حديث
معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه في السنن والمسانيد :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009963أنتم توفون سبعين أمة الحديث .
ومعلوم أن ما يطلق عليه اسم القوم لغة أكثر من سبعين بأضعاف ، وحاصل هذا الوجه الرابع أن الآية كقوله :
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ، وقوله :
ولكل أمة رسول ، وهذا لا إشكال فيه لحصر الأمم في سبعين ، كما بين في الحديث ، فآباء القوم الذين لم ينذروا مثلا المذكورون في قوله :
لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 \ 6 ] ، ليسوا أمة مستقلة حتى يرد الإشكال في عدم إنذارهم ، مع قوله :
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير بل هم بعض أمة ، وقوله تعالى :
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير لا يشكل عليه قوله تعالى :
ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا [ 25 \ 51 ] ، لأن المعنى أرسلنا إلى جميع القرى ، بل إلى الأسود والأحمر رسولا واحدا ، هو
محمد صلى الله عليه وسلم ، مع أنا لو شئنا أرسلنا إلى كل قرية بانفرادها رسولا ، ولكن لم نفعل ذلك ليكون الإرسال إلى الناس كلهم فيه
الإظهار لفضله صلى الله عليه وسلم على غيره من الرسل ، بإعطائه ما لم يعطه أحد قبله من الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام .
كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح من أن عموم رسالته إلى الأسود والأحمر ، مما خصه الله به دون غيره من الرسل .
[ ص: 313 ] وأقرب الأوجه المذكورة عندنا ، هو ما يدل عليه القرآن العظيم وهو الوجه الرابع ، وهو أن معنى الآية :
ولكل قوم هاد ، أي لكل أمة نبي ، فلست يا نبي الله بدعا من الرسل .
ووجه دلالة القرآن على هذا كثرة إتيان مثله في الآيات ، كقوله :
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] ، وقوله :
ولكل أمة رسول وقوله :
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وعليه فالحكمة في الإخبار بأن لكل أمة نبيا أن المشركين عجبوا من إرساله صلى الله عليه وسلم إليهم ، كما بينه تعالى بقوله :
أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس [ 10 \ 2 ] ، وقوله :
بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 50 \ 2 ] ، وقوله :
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا فأخبرهم أن إنذاره لهم ليس بعجب ولا غريب لأن لكل أمة منذرا ، فالآية كقوله :
قل ما كنت بدعا من الرسل [ 46 \ 9 ] ، وقوله :
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده [ 4 \ 163 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى :
والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك الآية .
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على
إيمان أهل الكتاب ، لأن الفرح بما أنزل على النبي دليل الإيمان .
ونظيرها قوله تعالى :
الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته [ 2 \ 121 ] ، وقوله :
قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله الآية [ 17 \ 107 ] .
وقد جاءت آيات تدل على خلاف ذلك كقوله :
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين - إلى أن قال -
إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم [ 98 \ 1 - 6 ] ، وبين في موضع آخر أن الكافرين من
أهل الكتاب أكثر ، وهو قوله :
ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون [ 3 \ 110 ] .
والجواب أن الآية من العام المخصوص ، فهي في خصوص المؤمنين من
أهل الكتاب ،
nindex.php?page=showalam&ids=106كعبد الله بن سلام ومن أسلم من
اليهود وكالثمانين الذين أسلموا من
النصارى [ ص: 314 ] المشهورين ، كما قاله
الماوردي وغيره ، وهو ظاهر ، ويدل عليه التبعيض في قوله تعالى
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله الآية [ 3 \ 199 ] .