[ ص: 318 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النحل
قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن هؤلاء الضالين يحملون أوزارهم كاملة ، ويحملون أيضا من أوزار الأتباع الذين أضلوهم .
وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه
لا يحمل أحد وزر غيره ، كقوله تعالى :
وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [ 35 \ 18 ] ، وقوله تعالى :
ولا تزر وازرة وزر أخرى [ 6 \ 164 ] .
والجواب أن هؤلاء الضالين ما حملوا إلا أوزار أنفسهم ، لأنهم تحملوا وزر الضلال ووزر الإضلال .
فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها ، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ، لأن تشريعه لها لغيره ذنب من ذنوبه فأخذ به .
وبهذا يزول الإشكال أيضا في قوله تعالى :
وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم الآية [ 29 \ 13 ] .
قوله تعالى :
ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا .
هذه الآية الكريمة يفهم منها أن السكر المتخذ من ثمرات النخيل والأعناب لا بأس به ، لأن الله امتن به على عباده في سورة الامتنان التي هي سورة " النحل " .
وقد حرم الله تعالى الخمر بقوله :
رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون الآية [ 5 \ 90 ] ، لأنه وصفها بأنها رجس ، وأنها من عمل الشيطان وأمر
[ ص: 319 ] باجتنابها ورتب عليه رجاء الفلاح ، ويفهم منه أن من لم يجتنبها لم يفلح ، وهو كذلك ، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن
كل ما خامر العقل فهو خمر ، وأن
كل مسكر حرام ، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام .
والجواب ظاهر ، وهو أن آية
تحريم الخمر ناسخة لقوله :
تتخذون منه سكرا الآية ، ونسخها له هو التحقيق خلافا لما يزعمه كثير من الأصوليين أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها الأولى ، لأن إباحتها الأولى إباحة عقلية وهي المعروفة عند الأصوليين بالبراءة الأصولية ، وتسمى استصحاب العدم الأصلي .
والإباحة العقلية ليست من الأحكام الشرعية حتى يكون رفعها نسخا ، ولو كان رفعها نسخا لكان كل تكليف في الشرع ناسخا للبراءة الأصلية من التكليف به وإلى كون الإباحة العقلية ليست من الأحكام الشرعية ، أشار في مراقي السعود بقوله :
وما من الإباحة العقلية قد أخذت فليست الشرعية
كما أشار إلى أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها ، لأنها إباحة عقلية ، وليست من الأحكام الشرعية حتى يكون رفعها نسخا بقوله :
أباحها في أول الإسلام براءة ليست من الأحكام
وإنما قلنا : إن التحقيق هو كون تحريم الخمر ناسخا لإباحتها ، لأن قوله
تتخذون منه سكرا يدل على إباحة الخمر شرعا ، فرفع هذه الإباحة المدلول عليها بالقرآن رفع حكم شرعي فهو نسخ بلا شك ولا يمكن أن تكون إباحتها عقلية إلا قبل نزول هذه الآية كما هو ظاهر .
ومعلوم عند العلماء أن الخمر نزلت في شأنها أربع آيات من كتاب الله :
الأولى : هذه الآية الدالة على إباحتها .
الثانية : الآية التي ذكر فيها بعض معائبها ، وأن فيها منافع وصرحت بأن إثمها أكبر من نفعها ، وهي قوله تعالى :
قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ 2 \ 219 ] ، فشربها بعد نزولها قوم للمنافع المذكورة وتركها آخرون للإثم الذي هو أكبر من المنافع .
[ ص: 320 ] الثالثة : الآية التي دلت على تحريمها في أوقات الصلاة دون غيرها ، وهي قوله :
ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون الآية [ 4 \ 43 ] .
الرابعة : الآية التي حرمتها تحريما باتا مطلقا وهي قوله تعالى
ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر - إلى قوله -
فهل أنتم منتهون [ 5 \ 90 - 91 ] ، والعلم عند الله تعالى .
وأما على قول من زعم أن السكر الطعم ، كما اختاره
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وأبو عبيدة أو أنه الخل ، فلا إشكال في الآية .
قوله تعالى :
إنما سلطانه على الذين يتولونه الآية .
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الشيطان له سلطان على أوليائه ، ونظيرها الاستثناء في قوله تعالى
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] .
وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على نفي سلطانه عليهم ، كقوله تعالى :
ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان الآية [ 34 \ 20 - 21 ] .
وقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له :
وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطانالآية [ 14 \ 22 ] .
والجواب هو أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه ، وذلك من وجهين :
الأول : أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه ، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان ، وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن .
الثاني : أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة ، ولكنهم هم الذين سلطوه على أنفسهم بطاعته ودخولهم في حزبه ، فلم يتسلط عليهم بقوة لأن الله يقول :
إن كيد الشيطان كان ضعيفا [ ص: 321 ] الآية [ 4 \ 76 ] ، وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم ، ذكر هذا الجواب بوجهيه
ابن القيم .
قوله تعالى :
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن
معية الله خاصة بالمتقين المحسنين .
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على عمومها وهي قوله :
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم [ 58 \ 7 ] .
وقوله :
وهو معكم أين ما كنتم [ 57 \ 4 ] .
وقوله :
فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ 7 \ 7 ] .
وقوله :
وما تكون في شأن الآية [ 10 \ 61 ] .
والجواب أن لله معية خاصة ومعية عامة ، فالمعية الخاصة بالنصر والتوفيق والإعانة ، وهذه لخصوص المتقين المحسنين ، كقوله تعالى :
إن الله مع الذين اتقوا الآية [ 16 \ 128 ] .
وقوله :
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم الآية [ 8 \ 12 ] .
وقوله :
إنني معكما أسمع وأرى [ 20 \ 46 ] .
وقوله :
لا تحزن إن الله معنا [ 9 \ 40 ] .
ومعية عامة بالإحاطة والعلم ، لأنه تعالى أعظم وأكبر من كل شيء ، محيط بكل شيء ، فجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا ، وله المثل الأعلى ، وسيأتي له زيادة إيضاح في سورة " الحديد " إن شاء الله ، وهي عامة لكل الخلائق ، كما دلت عليه الآيات المتقدمة .