صفحة جزء
[ ص: 368 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأحزاب

قوله تعالى : ياأيها النبي .

لا منافاة بينه وبين قوله في آخر الآية : إن الله كان بما تعملون خبيرا [ 33 \ 2 ] ، بصيغة الجمع لدخول الأمة تحت الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قدوتهم كما تقدم بيانه مستوفى في سورة " الروم " .

قوله تعالى : ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه .

هذه الآية الكريمة تدل بفحوى خطابها أنه لم يجعل لامرأة من قلبين في جوفها .

وقد جاءت آية أخرى يوهم ظاهرها خلاف ذلك وهي قوله تعالى في حفصة وعائشة : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما الآية [ 66 \ 4 ] ، فقد جمع القلوب لهاتين المرأتين .

والجواب عن هذا من وجهين :

أحدهما : أن المثنى إذا أضيف إليه شيئان هما جزآه ، جاز في ذلك المضاف الذي هو شيئان الجمع والتثنية والإفراد ، وأفصحها الجمع فالإفراد فالتثنية على الأصح سواء كانت الإضافة لفظا أو معنى .

فاللفظ مثاله : شويت رءوس الكبشين أو رأسهما أو رأسيهما .

والمعنى : قطعت الكبشين رأسهما أو رأسيهما .

والمعنى : قطعت الكبشين رءوسا وقطعت منها الرءوس ، فإن فرق المثنى فالمختار الإفراد نحو : على لسان داود وعيسى ابن مريم [ 5 \ 78 ] ، وإن كان الاثنان المضافان منفصلين عن المثنى المضاف إليه ، أي كانا غير جزأيه ، فالقياس الجمع وفاقا للفراء ، وفي الحديث : ما أخرجكما من بيوتكما إذ أويتما إلى مضاجعكما و : هذه فلانة وفلانة يسألانك عن إنفاقهما على أزواجهما ألهما فيه أجر ، و : لقي عليا وحمزة فضرباه بأسيافهما .

[ ص: 369 ] واعلم أن الضمائر الراجعة إلى هذا المضاف ، يجوز فيهما الجمع نظرا إلى اللفظ ، والتثنية نظرا إلى المعنى فمن الأول قوله :


خليلي لا تهلك نفوسكما أسا فإن لها فيما دهيت به أسا

ومن الثاني قوله :


قلوبكما يغشاهما الأمن عادة     إذا منكما الأبطال يغشاهم الذعر

الثاني : هو ما ذهب إليه مالك بن أنس رحمه الله تعالى : من أن أقل الجمع اثنان ، ونظيره قوله تعالى : فإن كان له إخوة [ 4 \ 11 ] أي أخوان فصاعدا .

قوله تعالى : وأزواجه أمهاتهم .

هذه الآية الكريمة تدل بدلالة الالتزام على أنه صلى الله عليه وسلم أب لهم ، لأن أمومة أزواجه لهم تستلزم أبوته صلى الله عليه وسلم لهم .

وهذا المدلول عليه بدلالة الالتزام مصرح به في قراءة أبي بن كعب رضي الله عنه لأنه يقرؤها : " وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " . وهذه القراءة مروية أيضا عن ابن عباس .

وقد جاءت آية أخرى تصرح بخلاف هذا المدلول عليه بدلالة الالتزام والقراءة الشاذة ، وهي قوله تعالى : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم الآية [ 33 \ 40 ] .

والجواب ظاهر ، وهو أن الأبوة المثبتة دينية والأبوة المنفية طينية ، وبهذا يرتفع الإشكال في قوله : وأزواجه أمهاتهم مع قوله : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب [ 33 \ 53 ] ، إذ يقال كيف يلزم الإنسان أن يسأل أمه من وراء حجاب .

والجواب ما ذكرناه الآن فهن أمهات في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام ، لا في الخلوة بهن ولا في حرمة بناتهن ونحو ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك الآية .

يظهر تعارضه مع قوله : لا يحل لك النساء من بعد الآية [ 33 \ 52 ] .

والجواب أن قوله : لا يحل لك النساء ، منسوخ بقوله : إنا أحللنا لك أزواجك وقد قدمنا في سورة " البقرة " أنه أحد الموضعين اللذين في المصحف ناسخهما [ ص: 370 ] قبل منسوخهما ، لتقدمه في ترتيب المصحف ، مع تأخره في النزول على القول بذلك .

وقيل الآية الناسخة لها هي قوله تعالى : ترجي من تشاء منهن الآية [ 33 \ 51 ] .

وقال بعض العلماء هي محكمة ، وعليه فالمعنى لا يحل لك النساء من بعد ، أي من بعد النساء التي أحلهن الله لك في قوله : إنا أحللنا لك أزواجك الآية .

فتكون آية : لا يحل لك النساء محرمة ما لم يدخل في آية : إنا أحللنا لك أزواجك كالكتابيات والمشركات والبدويات على القول بذلك فيهن ، وبنات العم والعمات ، وبنات الخال والخالات ، اللاتي لم يهاجرن معه على القول بذلك فيهن أيضا .

والقول بعدم النسخ قال به أبي بن كعب ومجاهد في رواية عنه ، وعكرمة والضحاك في رواية ، وأبو رزين في رواية عنه وأبو صالح والحسن وقتادة في رواية ، والسدي وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره ، واختار عدم النسخ ابن جرير وأبو حيان .

والذي يظهر لنا أن القول بالنسخ أرجح ، وليس المرجح لذلك عندنا أنه قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم منهم : علي وابن عباس وأنس وغيرهم ، ولكن المرجح له عندنا أنه قول أعلم الناس بالمسألة ، أعني أزواجه صلى الله عليه وسلم لأن حلية غيرهن من الضرات وعدمها ، لا يوجد من هو أشد اهتماما بها منهن ، فهن صواحبات القصة .

وقد تقرر في علم الأصول ، أن صاحب القصة يقدم على غيره ، ولذلك قدم العلماء رواية ميمونة وأبي رافع أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال ، على رواية ابن عباس المتفق عليها ، أنه تزوجها محرما ، لأن ميمونة صاحبة القصة وأبا رافع سفير فيها .

فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن ممن قال بالنسخ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، قالت : ما مات صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء ، وأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت : لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم .

أما عائشة فقد روى عنها ذلك الإمام أحمد والترمذي وصححه والنسائي في سننيهما ، والحاكم وصححه ، وأبو داود في ناسخه ، وابن المنذر وغيرهم .

[ ص: 371 ] وأما أم سلمة فقد رواه عنها ابن أبي حاتم كما نقله عنه ابن كثير وغيره ، ويشهد لذلك ما رواه جماعة عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة وجويرية رضي الله عنهما بعد نزول : لا يحل لك النساء .

قال الألوسي في تفسيره : إن ذلك أخرجه عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم ، والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية