صفحة جزء
[ ص: 372 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة سبأ

قوله تعالى : وهل نجازي إلا الكفور .

هذه الآية الكريمة على كلتا القراءتين ، قراءة ضم الياء مع فتح الزاي مبنيا للمفعول ، مع رفع " الكفور " على أنه نائب الفاعل ، وقراءة " نجازي " بضم النون وكسر الزاي مبنيا للفاعل مع نصب " الكفور " ، على أنه مفعول به تدل على خصوص الجزاء بالمبالغين في الكفر .

وقد جاءت آيات أخر تدل على عموم الجزاء كقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة الآية [ 99 \ 7 ] .

والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :

الأول : أن المعنى ما نجازي هذا الجزاء الشديد المستأصل إلا المبالغ في الكفران .

الثاني : أن ما يفعل بغير الكافر من الجزاء ليس عقابا في الحقيقة ، لأنه تطهير وتمحيص .

الثالث : أنه لا يجازى بجميع الأعمال مع المناقشة التامة إلا الكافر ، ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : من نوقش الحساب فقد هلك وأنه لما سألته عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى : فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا [ 84 \ 8 - 9 ] ، قال لها ذلك الغرض ، وبين لها أن من نوقش الحساب ، لا بد أن يهلك .

قوله تعالى : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله الآية .

هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يسأل أمته أجرا على تبليغ ما جاءهم به من خير الدنيا والآخرة ، ونظيرها قوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ 38 \ 86 ] ، وقوله تعالى : أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون [ ص: 373 ] [ 52 \ 40 ] في سورة " الطور " و " القلم " [ 68 \ 46 ] . وقوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا [ 25 \ 57 ] ، وقوله : قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين [ 6 \ 90 ] .

وعدم طلب الأجرة على التبليغ هو شأن الرسل كلهم عليهم صلوات الله وسلامه كما قال تعالى : اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا [ 36 \ 20 - 21 ] ، وقال تعالى في سورة " الشعراء " : وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين [ 26 \ 109 ] ، في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام .

وقال في سورة " هود " عن نوح : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا الآية [ 11 \ 29 ] .

وقال فيها أيضا عن هود : ياقوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني الآية [ 11 \ 51 ] . وقد جاء في آية أخرى ما يوهم خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى [ 42 \ 23 ] .

اعلم أولا أن في قوله تعالى : إلا المودة في القربى أربعة أقوال :

الأول : رواه الشعبي وغيره عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن جرير وغيره أن معنى الآية : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى أي إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس ، كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم .

وكان صلى الله عليه وسلم له في كل بطن من قريش رحم ، فهذا الذي سألهم ليس بأجر على التبليغ ، لأنه مبذول لكل أحد لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس ، وقد فعل له ذلك أبو طالب ، ولم يكن أجرا على التبليغ ، لأنه لم يؤمن وإذا كان لا يسأل أجرا إلا هذا الذي ليس بأجر ، تحقق أنه لا يسأل أجرا كقول النابغة :


ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

[ ص: 374 ] ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح ، بما يشبه الذم ، وهذا القول هو الصحيح في الآية ، واختاره ابن جرير وعليه فلا إشكال .

الثاني : أن معنى الآية إلا المودة في القربى ، أي لا تؤذوا قرابتي وعترتي واحفظوني فيهم . ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسين وعليه فلا إشكال أيضا ، لأن الموادة بين المسلمين واجبة فيما بينهم ، وأحرى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] .

وفي الحديث : مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد ، إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وقال صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، والأحاديث في مثل هذا كثيرة جدا . وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين تبين أنه غير عوض عن التبليغ .

وقال بعض العلماء : الاستثناء منقطع على كلا القولين ، وعليه فلا إشكال .

فمعناه على القول الأول : لا أسألكم عليه أجرا ، لكن أذكركم قرابتي فيكم .

وعلى الثاني : لكن أذكركم الله في قرابتي فاحفظوني فيهم .

القول الثالث : وبه قال الحسن : إلا المودة في القربى ، أي إلا تتوادوا إلى الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح ، وعليه فلا إشكال ، لأن التقرب إلى الله ليس أجرا على التبليغ .

القول الرابع : إلا المودة في القربى ، أي إلا أن تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم ، ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد الله بن قاسم .

وعليه أيضا فلا إشكال ، لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجرا على التبليغ ، فقد علمت الصحيح في تفسير الآية ، وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال .

وأما القول بأن قوله تعالى : إلا المودة في القربى ، منسوخ بقوله تعالى : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم [ 34 \ 47 ] ، فهو ضعيف ، والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية