[ ص: 390 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحقاف
قوله تعالى :
قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على
أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم مصير أمره ، وقد جاءت آية أخرى تدل أنه عالم بأن مصيره إلى الخير ، وهي قوله تعالى :
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ 48 وما تأخر تنصيص على حسن العاقبة والخاتمة .
والجواب ظاهر ، وهو أن الله تعالى علمه ذلك بعد أن كان لا يعلمه ويستأنس له بقوله تعالى :
وعلمك ما لم تكن تعلم الآية [ 4 \ 113 ] ، وقوله :
ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا الآية [ 42 \ 52 ] ، وقوله :
ووجدك ضالا فهدى [ 93 7 ] وقوله :
وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية [ 28 86 ] .
وهذا الجواب ، هو معنى قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وهو مراد
عكرمة والحسن وقتادة بأنها منسوخة بقوله :
ليغفر لك الله ما تقدم الآية [ 48 ] .
ويدل له أن " الأحقاف " مكية ، وسورة " الفتح " نزلت عام ست في رجوعه صلى الله عليه وسلم من
الحديبية .
وأجاب بعض العلماء : بأن المراد ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا من الحوادث والوقائع ، وعليه فلا إشكال ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم .
هذه الآية يفهم من ظاهرها أن
جزاء المطيع من الجن غفران ذنوبه وإجارته من عذاب أليم ، لا دخوله الجنة .
[ ص: 391 ] وقد تمسك جماعة من العلماء منهم
nindex.php?page=showalam&ids=11990الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى بظاهر هذه الآية فقالوا : إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة ، مع أنه جاء في آية أخرى ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة وهي قوله تعالى :
ولمن خاف مقام ربه جنتان [ 55 \ 46 ] ، لأنه تعالى بين شموله للجن والإنس بقوله :
فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 47 ] ، ويستأنس لهذا بقوله تعالى :
لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان [ 55 \ 56 ] ، لأنه يشير إلى أن في الجنة جنا يطمثون النساء كالإنس .
والجواب عن هذا ، أن آية " الأحقاف " نص فيها على الغفران والإجارة من العذاب ، ولم يتعرض فيها لدخول الجنة بنفي ولا إثبات ، وآية " الرحمن " نص فيها على دخولهم الجنة لأنه تعالى قال فيها :
ولمن خاف مقام ربه .
وقد تقرر في الأصول أن
الموصولات من صيغ العموم ، فقوله : " لمن خاف " يعم كل خائف مقام ربه ، ثم صرح بشمول ذلك للجن والإنس معا بقوله :
فبأي آلاء ربكما تكذبان ، فبين أن الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه من آلائه ، أي نعمه على الإنس والجن ، فلا تعارض بين الآيتين لأن إحداهما بينت ما لم تتعرض له الأخرى ، ولو سلمنا أن قوله :
يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم يفهم منه عدم دخولهم الجنة ، فإنه إنما يدل عليه بالمفهوم .
وقوله :
ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ، يدل على دخولهم الجنة بعموم المنطوق ،
والمنطوق مقدم على المفهوم ، كما تقرر في الأصول .
ولا يخفى أنا إذا أردنا تحقيق هذا المفهوم المدعى ، وجدناه معدوما من أصله للإجماع على أن قسمة المفهوم ثنائية ، إما أن يكون مفهوم موافقة أو مخالفة ولا ثالث ، ولا يدخل هذا المفهوم المدعى في شيء من أقسام المفهومين ، أما عدم دخوله في مفهوم الموافقة بقسميه فواضح ، وأما عدم دخوله في شيء من أنواع مفهوم المخالفة ، فلأن عدم دخوله في مفهوم الحصر أو العلة أو الغاية أو العدد أو الصفة أو الظرف واضح .
فلم يبق من أنواع
مفهوم المخالفة يتوهم دخوله فيه إلا مفهوم الشرط أو اللقب ، وليس داخلا في واحد منهما فظهر عدم دخوله فيه أصلا .
أما وجه توهم دخوله في مفهوم الشرط فلأن قوله :
يغفر لكم من ذنوبكم ، فعل
[ ص: 392 ] مضارع مجزوم بكونه جزاء الطلب ، وجمهور علماء العربية على أن الفعل إذا كان كذلك فهو مجزوم بشرط مقدر لا بالجملة قبله كما قيل به .
وعلى الصحيح الذي هو مذهب الجمهور ، فتقرير المعنى : أجيبوا داعي الله وآمنوا به ، إن تفعلوا ذلك يغفر لكم ، فيتوهم في الآية ، مفهوم هذا الشرط المقدر .
والجواب عن هذا ، أن مفهوم الشرط عند القائل به ، إنما هو في فعل الشرط لا في جزائه ، وهو معتبر هنا في فعل الشرط على عادته فمفهوم إن تجيبوا داعي الله وتؤمنوا به يغفر لكم أنهم إن لم يجيبوا داعي الله ولم يؤمنوا به لم يغفر لهم ، وهو كذلك . أما جزاء الشرط فلا مفهوم له لاحتمال أن تترتب على الشرط الواحد مشروطات كثيرة فيذكر بعضها جزاء له فلا يدل على نفي غيره . كما لو قلت لشخص مثلا : إن تسرق يجب عليك غرم ما سرقت ، فهذا الكلام حق ولا يدل على نفي غير الغرم كالقطع لأن قطع اليد مرتب أيضا على السرقة كالغرم . فكذلك الغفران والإجارة من العذاب ، ودخول الجنة كلها مرتبة على إجابة داعي الله والإيمان به ، فذكر في الآية بعضها وسكت فيها عن بعض ، ثم بين في موضع آخر ، وهذا لا إشكال فيه .
وأما وجه توهم دخوله في مفهوم اللقب ، فلأن
اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما لم يمكن انتظام الكلام العربي دونه ، أغنى المسند إليه سواء كان لقبا أو كنية أو اسما أو اسم جنس أو غير ذلك ، وقد أوضحنا اللقب غاية في " المائدة " .
والجواب عن عدم دخوله في مفهوم اللقب ، أن الغفران والإجارة من العذاب المدعى بالفرض أنهما لقبان لجنس مصدريهما ، وأن تخصيصهما بالذكر يدل على نفي غيرهما في الآية ، مسندان لا مسند إليهما ، بدليل أن المصدر فيهما كامن في الفعل ولا يسند إلى الفعل إجماعا ما لم يرد مجرد لفظه على سبيل الحكاية .
ومفهوم اللقب عند القائل به إنما هو فيما إذا كان اللقب مسندا إليه ، لأن تخصيصه بالذكر عند القائل به يدل على اختصاص الحكم به دون غيره ، وإلا لما كان للتخصيص بالذكر فائدة ، كما عللوا به مفهوم الصفة .
وأجيب من جهة الجمهور بأن اللقب ذكر ليمكن الحكم لا لتخصيصه بالحكم ، إذ لا
[ ص: 393 ] يمكن الإسناد بدون مسند إليه ، ومما يوضح ذلك أن مفهوم الصفة الذي حمل عليه اللقب عند القائل به ، إنما هو في المسند إليه لا في المسند ، لأن المسند إليه هو الذي تراعى أفراده وصفاتها فيقصد بعضها بالذكر دون بعض ، فيختص الحكم بالمذكور .
أما المسند فإنه لا يراعى فيه شيء من الأفراد ولا الأوصاف أصلا ، وإنما يراعى فيه مجرد الماهية التي هي الحقيقة الذهنية .
فلو حكمت مثلا على الإنسان بأنه حيوان ، فإنه المسند إليه الذي هو الإنسان في هذا المثال يقصد به جميع أفراده ، لأن كل فرد منها حيوان ، بخلاف المسند الذي هو الحيوان في هذا المثال فلا يقصد به إلا مطلق ماهيته وحقيقته الذهنية من غير مراعاة الأفراد ، لأنه لو روعيت أفراده لاستلزم الحكم على الإنسان بأنه فرد آخر من أفراد الحيوان كالفرس مثلا .
والحكم بالمباين على المباين باطل ، إذا كان إيجابيا باتفاق العقلاء وعامة النظار ، على أن موضوع القضية إذا كانت غير طبيعية يراعى فيه ما يصدق عليه عنوانها من الإفراد باعتبار الوجود الخارجي إن كانت خارجية ، أو الذهني أن كانت حقيقية .
وأما المحمول من حيث هو ، فلا تراعى فيه الأفراد البتة ، وإنما يراعى فيه مطلق الماهية .
ولو سلمنا تسليما جدليا أن مثل هذه الآية يدخل في مفهوم اللقب ، فجماهير العلماء على أن مفهوم اللقب لا عبرة به وربما كان اعتباره كفرا كما لو اعتبر معتبر مفهوم اللقب في قوله تعالى :
محمد رسول الله [ 48 \ 29 ] ، فقال : يفهم من مفهوم لقبه أن غير
محمد يخيل ولم يكن رسول الله ، فهذا كفر بإجماع المسلمين .
فالتحقيق أن اعتبار مفهوم اللقب لا دليل عليه شرعا ولا لغة ، ولا عقلا سواء كان اسم جنس أو اسم عين أو اسم جمع ، أو غير ذلك .
فقولك : جاء زيد ، لا يفهم منه عدم مجيء عمرو . وقولك : رأيت أسدا ، لا يفهم منه عدم رؤيتك غير الأسد .
والقول بالفرق بين اسم الجنس فيعتبر ، واسم العين فلا يعتبر ، لا يظهر ، فلا عبرة بقول
الصيرفي وأبي بكر الدقاق وغيرهما من الشافعية ، ولا بقول
ابن خويز منداد وابن [ ص: 394 ] القصار من المالكية ، ولا بقول بعض الحنابلة باعتبار مفهوم اللقب لأنه لا دليل على اعتباره عند القائل به إلا أنه يقول : لو لم يكن اللقب مختصا بالحكم لما كان لتخصيصه بالذكر فائدة ، كما علل به مفهوم الصفة .
لأن الجمهور يقولون : ذكر اللقب ليسند إليه وهو واضح لا إشكال فيه ، وأشار صاحب مراقي السعود إلى تعريف اللقب بالاصطلاح الأصولي وأنه أضعف المفاهيم بقوله :
أضعفها اللقب وهو ما أبى من دونه نظم الكلام العربي
وحاصل فقه المسألة ، أن الجن مكلفون على لسان نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، وأن كافرهم في النار بإجماع المسلمين وهو صريح قوله تعالى :
لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين .
وقوله تعالى :
فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون [ 26 \ 94 - 95 ] .
وقوله تعالى :
قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار [ 7 \ 38 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وأن مؤمنيهم اختلف في دخولهم الجنة ، ومنشأ الخلاف الاختلاف في فهم الآيتين المذكورتين ، والظاهر دخولهم الجنة كما بينا ، والعلم عند الله تعالى .