[ ص: 456 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التين
قوله تعالى :
وهذا البلد الأمين .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى :
لا أقسم بهذا البلد [ 90 ] .
قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم .
هذه الآية الكريمة توهم أن الإنسان ينكر أن ربه خلقه ، لما تقرر في فن المعاني من أن خالي الذهن من المتردد ، والإنكار لا يؤكد له الكلام ، ويسمى ذلك ابتدائيا ، والمتردد يحسن التوكيد له بمؤكد واحد ، ويسمى طلبيا ، والمنكر يجب التوكيد له بحسب إنكاره ، ويسمى إنكاريا .
والله تعالى في هذه الآية أكد إخباره بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم ، بأربعة أقسام ، وباللام ، وبقد ، فهي ستة تأكيدات ، وهذا التوكيد يوهم أن الإنسان منكر ، لأن ربه خلقه ، وقد جاءت آيات أخرى صريحة في أن الكفار يقرون بأن الله هو خالقهم ، وهي قوله :
ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] .
والجواب من وجهين :
الأول : هو ما حرره علماء البلاغة من أن المقر ، إذا ظهرت عليه أمارة الإنكار ، جعل كالمنكر ، فأكد له الخبر ، كقول
حجل بن نضلة :
جاء شقيق عارضا رمحه أن بني عمك فيهم رماح
فشقيق لا ينكر أن في بني عمه رماحا ، ولكن مجيئه عارضا رمحه ، أي جاعلا عرضه جهتهم من غير التفات إمارة ، أنه يعتقد أن لا رمح فيهم ، فأكد له الخبر ، فإذا حققت ذلك ، فاعلم أن الكفار لما أنكروا البعث ، ظهرت عليهم أمارة إنكار الإيجاد
[ ص: 457 ] الأول ، لأن من أقر بالأول لزمه الإقرار بالثاني ، لأن الإعادة أيسر من البدء ، فأكد لهم الإيجاد الأول .
ويوضح هذا أن الله بين أنه المقصود بقوله :
فما يكذبك بعد بالدين [ 95 \ 7 ] ، أي ما يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالبعث والجزاء ، بعد علمك أن الله أوجدك أولا ، فمن أوجدك أولا قادر على أن يوجدك ثانيا ، كما قال تعالى :
قل يحييها الذي أنشأها أول مرة الآية [ 36 \ 79 ] ، وقال :
كما بدأنا أول خلق نعيده الآية [ 21 \ 104 ] ، وقال :
وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده الآية [ 30 \ 27 ] وقال :
ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] .
والآيات بمثل هذا كثيرة ، ولذا ذكر تعالى أن من أنكر البعث ، فقد نسي إيجاده الأول ، بقوله :
وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] ، وبقوله :
ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 66 - 67 ] .
وقال البعض : معنى :
فما يكذبك ، فمن يقدر على تكذيبك يا نبي الله بالثواب والعقاب بعدما تبين له أنا خلقنا الإنسان على ما وصفنا ، وهو في دلالته على ما ذكرنا كالأول ، فظهرت النكتة في جعل الابتدائي كالإنكاري .
الوجه الثاني : أن القسم شامل لقوله :
ثم رددناه أسفل سافلين [ 95 \ 5 ] ، أي إلى النار ، وهم لا يصدقون بالنار بدليل قوله تعالى :
هذه النار التي كنتم بها تكذبون [ 52 \ 14 ] .
وهذا الوجه في معنى قوله :
أسفل سافلين أصح من القول بأن معناه الهرم ، والرد إلى أرذل العمر لكون قوله :
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون [ 95 \ 6 ] أظهر في الأول من الثاني ، وإذا كان القسم شاملا للإنكاري ، فلا إشكالا لأن التوكيد منصب على ذلك الإنكاري ، والعلم عند الله تعالى .