أعماله في البلاد : كانت أعماله رحمه الله كعمل أمثاله من العلماء : الدرس والفتيا ، ولكنه كان قد اشتهر بالقضاء وبالفراسة فيه ، ورغم وجود الحاكم الفرنسي إلا أن المواطنين كانوا عظيمي الثقة فيه فيأتونه للقضاء بينهم ويفدون إليه من أماكن بعيدة أو حيث يكون نازلا .
طريقته في القضاء : كان إذا أتى إليه الطرفان استكتبهما رغبتهما في التقاضي إليه وقبولهما ما يقضي به ، ثم يستكتب المدعي دعواه ويكتب جواب المدعى عليه أسفل كتابة الدعوى ويكتب الحكم مع الدعوى والإجابة ويقول لهما اذهبا بها إلى من شئتما من المشايخ أو الحكام .
أما المشايخ فلا يأتي أحدهم قضية قضاها إلا صدقوا عليها . وأما الحكام فلا تصلهم قضية حكم فيها إلا نفذوا حكمه حالا . وكان يقضي في كل شيء إلا في الدماء والحدود وكان للدماء قضاء خاص .
[ ص: 489 ] قضاء الدماء : كان الحاكم الفرنسي في البلاد يقضي بالقصاص في القتل بعد محاكمة ومرافعة واسعة النطاق وبعد تمحيص القضية وإنهاء المرافعة وصدور الحكم يعرض على عالمين جليلين من علماء البلاد ليصادقوا عليه ، ويسمى العالمان لجنة الدماء ولا ينفذ حكم الإعدام في القصاص إلا بعد مصادقتهما عليه .
وقد كان رحمه الله أحد أعضاء هذه اللجنة ولم يخرج من بلاده حتى علا قدره وعظم تقديره ، وكان علما من أعلامها وموضع ثقة أهلها وحكامها ومحكومها .
خروجه من بلاده رحمه الله : كان خروجه من بلاده لأداء فريضة الحج وعلى نية العودة وكان سفره برا ، كتب فيه رحلة ضمنها مباحث جليلة كان آخرها مبحث القضايا الموجهة في المنطق مع علماء
أم درمان بالمعهد العلمي
بالسودان .
وبعد وصوله إلى هذه البلاد تجددت نية بقائه . ولعل من الخير وبيان الوقاع ذكر سبب بقائه : لقد كان في بلاده كغيره يسمع الدعاية ضد هذه البلاد باسم الوهابية ، إلا أن بعض الصدق قد تغير من وجهات النظر " وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب " ومن عجيب الصدف أن ينزل رحمه الله في بعض منازل الحج بجوار خيمة الأمير
خالد السديري دون أن يعرف أحدهما الآخر ، وكان الأمير
خالد يبحث مع جلسائه بيتا في الأدب وهو ذواقة أديب وامتد الحديث إلى أن سألوا الشيخ لعله يشاركهم فوجدوا بحرا لا ساحل له ، ومن تلك الجلسة وذاك المنزل تعدلت الفكرة بل كانت تلك الخيمة بداية منطلق لفكرة جديدة ، وأوصاه الأمير إن هو قدم
المدينة أن يلتقي بالشيخين الشيخ
عبد الله الزاحم رحمه الله والشيخ
عبد العزيز بن صالح حفظه الله .
وفي
المدينة التقى بهما رحمه الله . وكان صريحا معهما فيما يسمع عن البلاد وكانا حكيمين فيما يعرضان عليه ما عليه أهل هذه البلاد من مذهب في الفقه ومنهج في العقيدة .
وكان أكثرهما مباحثة معه فضيلة الشيخ
عبد العزيز بن صالح . وأخيرا قدم للشيخ كتاب المغني كأصل للمذهب وبعض كتب الشيخ
ابن تيمية كمنهج للعقيدة ، فقرأها الشيخ وتعددت اللقاءات وطالت الجلسات فوجد الشيخ مذهبا معلوما لإمام جليل من أئمة أهل السنة وسلف الأمة
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل رحمه الله .
[ ص: 490 ] كما وجد منهجا سليما لعقيدة السلف تعتمد الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة ، فذهب زيف الدعايات الباطلة وظهر معدن الحقيقة الصحيحة ، وتوطدت العلاقة بين الطرفين ، وتجددت رغبة متبادلة في بقائه لإفادة المسلمين .
ورغب رحمه الله في هذا الجوار الكريم وكان يقول : ليس من عمل أعظم من تفسير كتاب الله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وتم ذلك بأمر من جلالة الملك
عبد العزيز رحمه الله وكان الشيخان أقرب الناس إليه ودرس الشيخ
عبد العزيز بن صالح الصرف والبيان عليه . رحم الله الموتى وحفظ الله الأحياء .
وهنا كلمة يجب أن تقال للحقيقة ولطلبة العلم خاصة نضعها في ميزان العدالة وقانون الإنصاف : لقد كان لجلوس الشيخ رحمه الله فائدة مزدوجة استفاد وأفاد .
أما استفادته فأمر حتمي ومنطقه علمي للآتي :
وهو أن منهج الدراسة في بلاده كان منصبا أكثر ما يكون على الفقه ، وفي مذهب
مالك فقط . وعلى العربية متنا وأسلوبا ، والأصول والسيرة والتفسير . وتقدم أنه رحمه الله درس المنطق بالمطالعة ولم تكن دراسة الحديث تحظى بما يحظى به غيرها للاقتصار على مذهب
مالك . وكان الشيخ رحمه الله إماما في كل ما تقدم مما هو شائع في البلاد .
ولما عزم على البقاء وبدأ التدريس في المسجد النبوي وخالط العامة والخاصة وجد من يمثل المذاهب الأربعة ، ومن يناقش فيها ، ووجد في المسجد النبوي دراسة لا تقتصر على مذهب
مالك . بل ولا على غيره ، فكان لا بد من دراسة بقية المذاهب بجانب مذهب
مالك ، وبما أن الخلاف المذهبي لا ينهيه إلا الحديث أو القرءان ، فكان لزاما من التوسع في دراسة الحديث ، وقد ساعد الشيخ على هذا التوسع والاستيعاب وقوة الاستدلال ودقة الترجيح ما هو متمكن فيه من فن الأصول والعربية ، مع توسعه في دراسة الحديث ، وبالأخص المجاميع كنيل الأوطار وفتح الباري وغيرها .
وقد ظهر ذلك في منهجه في أضواء البيان حينما يعرض لمبحث فقهي مختلف فيه فيستوفي في أقوال العلماء ، ويرجح ما يظهر له بمقتضى الدليل عقلا كان أو نقلا .
وهذا المنهج هو سبيل أهل التحصيل ، الدأب على الدراسة ، ومواصلة المطالعة والتنقيح .
[ ص: 491 ] أما في العقيدة فقد بلورها منطقا ودليلا ، ثم لخصها في محاضرة آيات الأسماء والصفات في أول محاضرات الجامعة ثم بسطها ووضحها إيضاحا شافيا في أخريات حياته ، في كتابي آداب البحث والمناظرة دليلا واستدلالا وعرضا وإقناعا . ومن آثار بيانه لها وأسلوبه فيها ما قاله فضيلة الشيخ
عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله لما سمع بيان الشيخ لعقيدة السلف في مسجد الشيخ
محمد رحمه الله قال : جزى الله عنا الشيخ
محمدا الأمين خيرا على بيانه هذا ، فالجاهل عرف العقيدة ، والعالم عرف الطريق والأسلوب .
وهذه الحقيقة تضع بين يدي طالب العلم منهج الاستزادة في التحصيل وطموحه فيه ، كما قال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009977منهومان لا يشبعان أبدا : طالب علم وطالب مال هذا جانب استفادته ، أما جانب إفادته فهو ما سنتحدث عنه إن شاء الله .
أولا : في المسجد النبوي : يعتبر التدريس في المسجد النبوي من أهم التدريس في كبريات جامعات العالم ، في نشر العلم ، وهو الجامعة الأولى للتشريع الإسلامي منذ عهد النبوة . وحين كان
جبريل عليه السلام يأتي لتعليم الإسلام في مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم . ومنذ كانت مجالس الخلفاء الراشدين وعلماء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين . إذ كانت
المدينة العاصمة العلمية وظلت محافظة على مركزها العلمي ، ولم تخل في زمن من الأزمان من عالم يقوم بحق الله فيها .
وقبل مجيء الشيخ رحمه الله كان قبله الشيخ
الطيب رحمه الله نفع الله به كثيرا . وتوفي سنة 1363 هـ . فكان جلوس الشيخ رحمه الله للتدريس في المسجد النبوي امتدادا لما كان قبله ، مع من كان من العلماء بالمسجد النبوي آنذاك من تلاميذ الشيخ الطيب وغيرهم . وكان درس الشيخ في التفسير ، ختم القرءان مرتين .