أما
الناحية الشخصية : في تقويمه الشخصي لسلوكه ، وأخلاقه ، وآدابه ، وكرمه ، وعفته ، وزهده وترفع نفسه وما إلى ذلك . فهذا ما يستحق أن يفرد بحديث ، وإني لا أستطيع الآن تصويره ولا يسعني في هذا الوقت تفصيله . وما كان رحمه الله يحب أن يذكر عنه شيء في ذلك ولكن على سبيل الإجمال لو أن للفضائل والمكرمات والشيم وصفات الكمال في الرجال عنوانا يجمعها لكان هو أحق به .
وإذا كان علماء الأخلاق يعنونون لأصول الأخلاق والفضائل بالمروءة فإن المروءة كانت شعاره ودثاره . وكانت هي التي تحكمه في جميع تصرفاته سواء في نفسه أو مع إخوانه وطلابه أو مع غيرهم ، من عرفهم أو لم يعرفهم . وقد قال فيه بعض الناس في حياته : إنه لا عيب فيه سوى عيب واحد ، هو أننا نفقده بعد موته .
وإن تفصيل ذلك لمتروك لمن خالطه عن قرب . وقد استعصى علي المقال في ذلك ولكأني بقول القائل :
أهابك إجلالا وما بك سلطة علي ولكن ملء عين حبيبها
ولكن قد تكفي الإشارة إذا لم تسعف العبارة . وأقرب شيء زهده في الدنيا وعفته عما في أيدي الناس ، وكرمه بما في يده : لأن هذا لا يعلم إلا لمن خالطه ، وليس كل من خالطه يعرف ذلك منه بل من داخله ولازمه .
والواقع أن الدنيا لم تكن تساوي عنده شيئا فلم يكن يهتم لها . ومنذ وجوده في المملكة وصلته بالحكومة حتى فارق الدنيا لم يطلب عطاء ولا مرتبا ولا ترفيعا لمرتبه ولا حصولا على مكافأة أو علاوة ولكن ما جاءه من غير سؤال أخذه ، وما حصل عليه لم يكن
[ ص: 503 ] ليستبقيه بل يوزع في حينه على المعوزين من أرامل ومنقطعين ، وكنت أتولى توزيعه وإرساله من
الرياض إلى كل من
مكة والمدينة . ومات ولم يخلف درهما ولا دينارا ، وكان مستغنيا بعفته وقناعته . بل إن حقه الخاص ليتركه تعففا عنه كما فعل في مؤلفاته وهي فريدة في نوعها ، لم يقبل التكسب بها وتركها لطلبة العلم .
وسمعته يقول : لقد جئت معي من البلاد بكنز عظيم يكفيني مدى الحياة وأخشى عليه الضياع . فقلت له : وما هو ؟ قال : القناعة . وكان شعاره في ذلك قول الشاعر :
الجوع يطرد بالرغيف اليابسه فعلام تكثر حسرتي ووساوسي
وكان اهتمامه بالعلم عنده آلة ووسيلة ، وعلم الكتاب وحده غاية . وكان كثيرا ما يتمثل بأبيات الأديب
محمد بن حنبل الحسن الشنقيطي رحمه الله في قوله :
لا تسؤ بالحلم ظنا يا فتى إن سوء الظن بالعلم عطب
لا يزهدك أحد في العلم إن غمر الجهال أرباب الأدب
إن تر العالم نضوا مرملا صفر كف لم يساعده سبب
وترى الجاهل قد حاز الغنى محرز المأمول من كل أرب
قد تجوع الأسد في آجامها والذئاب الغبش تعتام القتب
جرع النفس على تحصيله مضض المرين ذل وسغب
لا نهاب الشوك قطاف الجنى وإبار النحل مشتار الضرب
حقا إنه لم يسئ بالعلم ظنا ، ولم يهب في تحصيله شوك النخل ولا إبار النحل ، فنال منه ما أراد واقتحم الحمى على عذارى المعاني وأباح حريمها جبرا عليها وما كان الحريم بمستباح .
أما مكارم أخلاقه ومراعاة شعور جلسائه ، فهذا فوق الاستطاعة ، فمذ صحبته لم أسمع منه مقالا لأي إنسان ولو مخطئ عليه يكون فيه جرح لشعوره ، وما كان يعاتب إنسانا في شيء يمكن تداركه ، وكان كثير التغاضي عن كثير من الأمور في حق نفسه ، وحينما كنت أسائله في ذلك يقول :
ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي
ولم يكن يغتاب أحدا أو يسمح بغيبة أحد في مجلسه ، وكثيرا ما يقول لإخوانه
[ ص: 504 ] ( اتكايسوا ) أي من الكياسة والتحفظ من خطر الغيبة ويقول إذا كان الإنسان يعلم أن كل ما يتكلم به يأتي في صحيفته ، فلا يأتي فيها إلا الشيء الطيب .
ومما لوحظ عليه في سنواته الأخيرة تباعده عن الفتيا ، وإذا اضطر يقول : لا أتحمل في ذمتي شيئا ، العلماء يقولون : كذا وكذا .
وسألته مرة عن ذلك ، فقال : إن الإنسان في عافية ما لم يبتل والسؤال ابتلاء ، لأنك تقول عن الله ولا تدري أتصيب حكم الله أم لا . فما لم يكن عليه نص قاطع من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب التحفظ فيه .
ويتمثل بقول الشاعر :
إذا ما قتلت الشيء علما فقل به ولا تقل الشيء الذي أنت جاهله
فمن كان يهوى أن يرى متصدرا ويكره لا أدري أصيبت مقاتله
وفي الجملة ، فقد كان رحمه الله خير قدوة وأحسنها في جميع مجالات الحياة : فكان العالم العامل ولا أزكي على الله أحدا ، وقد خلف ولدين فاضلين أديبين يدرسان بكلية الشريعة الإسلامية جعلهما الله خير خلف لخير سلف ، والله أسأل أن يسكنه فسيح جنته ويوسع له في رضوان رحمته وأن يعلي منزلته ويرفع درجته مع العلماء والصديقين والشهداء ، وحسن أولئك رفيقا .
ونفعنا الله بعلمه وسلك بنا طريقة عمله بما يرضيه تبارك وتعالى عنا ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله
محمد صلى الله عليه وسلم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . . .