المسألة الثالثة :
الحيوان البري ثلاثة أقسام : قسم هو صيد إجماعا ، وهو ما كالغزال من كل وحشي حلال الأكل ، فيمنع قتله للمحرم ، وإن قتله فعليه الجزاء ، وقسم ليس بصيد إجماعا ، ولا بأس بقتله ، وقسم اختلف فيه .
أما القسم الذي لا بأس بقتله ، وليس بصيد إجماعا فهو الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور .
وأما القسم المختلف فيه : فكالأسد ، والنمر ، والفهد ، والذئب ، وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن
عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007487أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل خمس فواسق في الحل ، والحرم : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور " .
[ ص: 435 ] وفي الصحيحين أيضا عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007488 " خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح " ، ثم عد الخمس المذكورة آنفا ، ولا شك أن الحية أولى بالقتل من العقرب .
وقد أخرج
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007489أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر محرما بقتل حية بمنى " ، وعن
ابن عمرو سئل :
ما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم ؟ فقال : " حدثتني إحدى نسوة النبي - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007490أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور ، والفأرة ، والعقرب ، والحدأة ، والغراب ، والحية " رواه
مسلم أيضا .
والأحاديث في الباب كثيرة ، والجاري على الأصول تقييد الغراب بالأبقع ، وهو الذي فيه بياض ، لما روى
مسلم من حديث
عائشة في عد الفواسق الخمس المذكورة ، والغراب الأبقع . والمقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد ، وما أجاب به بعض العلماء من أن روايات الغراب بالإطلاق متفق عليها ، فهي أصح من رواية القيد بالأبقع لا ينهض ، إذ لا تعارض بين مقيد ومطلق ; لأن القيد بيان للمراد من المطلق .
ولا عبرة بقول
عطاء ،
ومجاهد بمنع
قتل الغراب للمحرم ; لأنه خلاف النص الصريح الصحيح ، وقول عامة أهل العلم ، ولا عبرة أيضا بقول
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي : إن قتل الفأرة جزاء ، لمخالفته أيضا للنص وقول عامة العلماء ، كما لا عبرة أيضا بقول
الحكم ،
وحماد : " لا يقتل المحرم العقرب ، والحية " ، ولا شك أن السباع العادية كالأسد ، والنمر ، والفهد أولى بالقتل من الكلب ; لأنها أقوى منه عقرا ، وأشد منه فتكا .
واعلم أن العلماء اختلفوا في
المراد بالكلب العقور ، فروى
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة بإسناد حسن ، أنه الأسد ، قاله
ابن حجر ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم أنه قال : وأي كلب أعقر من الحية .
وقال
زفر : المراد به هنا الذئب خاصة ، وقال
مالك في الموطأ : كل ما عقر الناس ، وعدا عليهم ، وأخافهم ، مثل الأسد ، والنمر ، والفهد ، والذئب فهو عقور ، وكذا نقل
أبو عبيد عن
سفيان ، وهو قول الجمهور .
وقال
أبو حنيفة : المراد بالكلب هنا هو الكلب المتعارف خاصة ، ولا يلحق به في هذا الحكم سوى الذئب ، واحتج الجمهور بقوله تعالى :
وما علمتم من الجوارح مكلبين [ ص: 436 ] [ 5 \ 4 ] ، فاشتقها من اسم الكلب ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في ولد
أبي لهب : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007491اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ، فقتله الأسد " ، رواه
الحاكم وغيره بإسناد حسن .
قال مقيده - عفا الله عنه : التحقيق أن
السباع العادية ليست من الصيد ، فيجوز قتلها للمحرم وغيره في الحرم وغيره . لما تقرر في الأصول من أن العلة تعمم معلولها ; لأن قوله " العقور " علة لقتل الكلب ، فيعلم منه أن كل حيوان طبعه العقر كذلك .
ولذا لم يختلف العلماء في أن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث
أبي بكرة المتفق عليه : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007492لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان " ، أن هذه العلة التي هي في ظاهر الحديث الغضب تعمم معلولها فيمتنع الحكم للقاضي بكل مشوش للفكر ، مانع من استيفاء النظر في المسائل كائنا ما كان غضبا أو غيره ، كجوع وعطش مفرطين ، وحزن وسرور مفرطين ، وحقن وحقب مفرطين ونحو ذلك ، وإلى هذا أشار في " مراقي السعود " قوله في مبحث العلة : [ الرجز ]
وقد تخصص وقد تعمم لأصلها لكنها لا تخرم
ويدل لهذا ما أخرجه
أبو داود ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه ،
nindex.php?page=showalam&ids=12251والإمام أحمد من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري : أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007493سئل عما يقتل المحرم فقال : " الحية ، والعقرب ، والفويسقة ، ويرمي الغراب ولا يقتله ، والكلب العقور ، والحدأة ، والسبع العادي " ، وهذا الحديث حسنه
الترمذي .
وضعف
ابن كثير رواية
nindex.php?page=showalam&ids=17347يزيد بن أبي زياد ، وقال فيه
ابن حجر في " التلخيص " فيه
nindex.php?page=showalam&ids=17347يزيد بن أبي زياد ، وهو ضعيف ، وفيه لفظة منكرة وهي قوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007494ويرمي الغراب ولا يقتله " ، وقال
النووي في " شرح المهذب " : إن صح هذا الخبر حمل قوله هذا على أنه لا يتأكد ندب قتل الغراب كتأكيد قتل الحية وغيرها .
قال مقيده - عفا الله عنه : تضعيف هذا الحديث ، ومنع الاحتجاج متعقب من وجهين :
الأول : أنه على شرط
مسلم ; لأن
nindex.php?page=showalam&ids=17347يزيد بن أبي زياد من رجال صحيحه وأخرج له
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري تعليقا ، ومنع الاحتجاج بحديث على شرط
مسلم لا يخلو من نظر ، وقد ذكر
مسلم في مقدمة " صحيحه " ، أن من أخرج حديثهم في غير الشواهد والمتابعات أقل أحوالهم قبول الرواية
nindex.php?page=showalam&ids=17347فيزيد بن أبي زياد عند
مسلم مقبول الرواية ، وإليه الإشارة بقول
[ ص: 437 ] العراقي في ألفيته : [ الرجز ]
فاحتاج أن ينزل في الإسناد إلى يزيد بن أبي زياد
الوجه الثاني : أنا لو فرضنا ضعف هذا الحديث ، فإنه يقويه ما ثبت من الأحاديث المتفق عليها من جواز
قتل الكلب العقور في الإحرام وفي الحرم ، والسبع العادي إما أن يدخل في المراد به ، أو يلحق به إلحاقا صحيحا لا مراء فيه ، وما ذكره الإمام
أبو حنيفة - رحمه الله - من أن الكلب العقور يلحق به الذئب فقط ; لأنه أشبه به من غيره لا يظهر ; لأنه لا شك في أن فتك الأسد والنمر مثلا ، أشد من عقر الكلب والذئب ، وليس من الواضح أن يباح قتل ضعيف الضرر ، ويمنع قتل قويه ; لأن فيه علة الحكم وزيادة ، وهذا النوع من الإلحاق من دلالة اللفظ عند أكثر أهل الأصول ، لا من القياس ، خلافا
nindex.php?page=showalam&ids=13790للشافعي وقوم ، كما قدمنا في سورة النساء .
وقال
القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه : قلت : العجب من
أبي حنيفة - رحمه الله - يحمل التراب على البر بعلة الكيل ، ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق والعقر ، كما فعل
مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، رحمهما الله .
واعلم أن الصيد عند
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي هو مأكول اللحم فقط ، فلا شيء عنده في قتل ما لم يؤكل لحمه ، والصغار منه والكبار عنده سواء ، إلا المتولد من بين مأكول اللحم وغير مأكوله ، فلا يجوز اصطياده عنده ، وإن كان يحرم أكله ، كالسمع وهو المتولد من بين الذئب والضبع ، وقال : ليس في الرخمة ، والخنافس ، والقردان ، والحلم ، وما لا يؤكل لحمه شيء ; لأن هذا ليس من الصيد ، لقوله تعالى :
وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما [ 5 \ 96 ] ، فدل أن
الصيد الذي حرم عليهم ، هو ما كان حلالا لهم قبل الإحرام ، وهذا هو مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد .
أما
مالك - رحمه الله - فذهب إلى أن
كل ما لا يعدو من السباع ، كالهر ، والثعلب ، والضبع وما أشبهها ، لا يجوز قتله . فإن قتله فداه ، قال : وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم ، فإن قتلها فداها ، وهي مثل فراخ الغربان .
قال مقيده - عفا الله عنه : أما الضبع فليست مثل ما ذكر معها لورود النص فيها ، دون غيرها ; بأنها صيد يلزم فيه الجزاء ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
ولم يجز
مالك للمحرم قتل الزنبور ، وكذلك النمل ، والذباب ، والبراغيث ، وقال :
[ ص: 438 ] إن قتلها محرم يطعم شيئا ، وثبت عن
عمر - رضي الله عنه - إباحة قتل الزنبور ، وبعض العلماء شبهه بالعقرب ، وبعضهم يقول : إذا ابتدأ بالأذى جاز قتله ، وإلا فلا ، وأقيسها ما ثبت عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ; لأنه مما طبيعته أن يؤذي .
وقد قدمنا عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ،
وأحمد ، وغيرهم أنه لا شيء في غير الصيد المأكول ، وهو ظاهر القرآن العظيم .