قوله تعالى :
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الآية ، بين تعالى المراد بمفاتح الغيب بقوله :
إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير [ 31 \ 34 ] ، فقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ،
وأحمد ، وغيرهما عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم : أن المراد بمفاتح الغيب الخمس المذكورة في الآية المذكورة ، والمفاتح الخزائن ، جمع مفتح بفتح الميم بمعنى المخزن ، وقيل : هي المفاتيح ، جمع مفتح بكسر الميم ، وهو المفتاح ، وتدل له قراءة ابن السميقع .
" مفاتيح " بياء بعد التاء جمع مفتاح ، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله ، وهو كذلك ; لأن الخلق لا يعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا .
وعن
عائشة - رضي الله عنها - قالت : " من
زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر بما يكون في غد ، فقد أعظم على الله الفرية " ، والله يقول :
قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ 27 \ 65 ] ، أخرجه
مسلم ، والله تعالى في هذه السورة الكريمة أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن للناس أنه لا يعلم الغيب ، وذلك في قوله تعالى :
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي [ 6 \ 50 ] .
ولذا لما رميت
عائشة - رضي الله عنها - بالإفك ، لم يعلم ، أهي بريئة أم لا ، حتى أخبره الله تعالى بقوله :
أولئك مبرءون مما يقولون [ 24 \ 26 ] .
وقد ذبح
إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - عجله للملائكة ، ولا علم له بأنهم ملائكة حتى أخبروه ، وقالوا له :
إنا أرسلنا إلى قوم لوط [ 11 \ 70 ] ، ولما جاءوا لوطا لم يعلم أيضا أنهم ملائكة ، ولذا
سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب [ 11 \ 77 ] ، يخاف عليهم من أن يفعل بهم قومه فاحشتهم المعروفة ، حتى قال :
لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد [ 11 \ 80 ] ، ولم يعلم خبرهم حتى قالوا له :
إنا رسل ربك لن يصلوا إليك الآيات [ 11 \ 81 ] .
[ ص: 482 ] ويعقوب - عليه السلام - ابيضت عيناه من الحزن على
يوسف ، وهو في مصر لا يدري خبره حتى أظهر الله خبر
يوسف .
وسليمان - عليه السلام - مع أن الله سخر له الشياطين والريح ، ما كان يدري عن
أهل مأرب قوم بلقيس حتى جاءه الهدهد ، وقال له :
أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين الآيات [ 27 \ 22 ] .
ونوح - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ما كان يدري أن ابنه الذي غرق ليس من أهله الموعود بنجاتهم ، حتى قال :
رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق الآية [ 11 \ 45 ] ، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أخبره الله بقوله :
قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين [ 11 \ 46 ] .
وقد قال تعالى عن
نوح في سورة هود :
ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب الآية [ 6 \ 50 ] ، والملائكة - عليهم الصلاة والسلام - لما قال لهم :
أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا [ 2 \ 31 ، 32 ] .
فقد ظهر أن أعلم المخلوقات وهم الرسل ،
والملائكة لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى ، وهو تعالى يعلم رسله من غيبه ما شاء ، كما أشار له بقوله :
وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء [ 3 \ 179 ] ، وقوله :
عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول الآية [ 72 \ 26 ، 27 ] .
تنبيه
لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله ، كان جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين ، وبعض منها يكون كفرا .
ولذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007546 " من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما " ، ولا خلاف بين العلماء في منع العيافة ، والكهانة ، والعرافة ، والطرق ، والزجر ، والنجوم ، وكل ذلك يدخل في الكهانة ; لأنها تشمل جميع أنواع ادعاء الاطلاع على علم الغيب .
وقد
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007547سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان ، فقال : " ليسوا بشيء " .
[ ص: 483 ] وقال
القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه : فمن قال إنه ينزل الغيث غدا وجزم به ، فهو كافر ، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا ، وكذلك من قال إنه يعلم ما في الرحم فإنه كافر ، فإن لم يجزم ، وقال : إن النوء ينزل به الماء عادة ، وإنه سبب الماء عادة ، وإنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه ، لم يكفر ، إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به ، فإن فيه تشبيها بكلمة أهل الكفر ، وجهلا بلطيف حكمته ; لأنه ينزل متى شاء مرة بنوء كذا ، ومرة دون النوء .
قال الله تعالى :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003049 " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكواكب " ، على ما يأتي بيانه في الواقعة إن شاء الله تعالى .
قال
ابن العربي : وكذلك قول
الطبيب إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة ، فهو ذكر ، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى ، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى ، وادعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم يكفر ، ولم يفسق .
وأما من
ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر ، أو أخبر عن الكوائن المجملة ، أو المفصلة ، في أن تكون قبل أن تكون فلا ريبة في كفره أيضا ، فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر ، فقد قال علماؤنا : يؤدب ولا يسجن ، أما عدم كفره فلأن جماعة قالوا : إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل ، حسبما أخبر الله عنه من قوله :
والقمر قدرناه منازل [ 36 \ 39 ] .
وأما أدبهم ، فلأنهم يدخلون الشك على العامة ، إذ لا يدرون الفرق بين هذا وغيره ، فيشوشون عقائدهم ، ويتركون قواعدهم في اليقين ، فأدبوا حتى يستروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به .
قلت : ومن هذا الباب ما جاء في " صحيح
مسلم " عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007548 " من أتى عرافا فسأله عن شيء ، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " ، والعراف : هو الحازي والمنجم الذي يدعي علم الغيب ، وهي العرافة ، وصاحبها عراف ، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها ، وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر ، والطرق ، والنجوم ، وأسباب معتادة في ذلك ، وهذا الفن هو العيافة بالياء ، وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض .
والكهانة : ادعاء علم الغيب .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13332أبو عمر بن عبد البر في " الكافي " : من
المكاسب المجتمع على تحريمها [ ص: 484 ] الربا ، ومهور البغايا ، والسحت ، والرشا ، وأخذ الأجرة على النياحة والغناء ، وعلى الكهانة ، وادعاء الغيب ، وأخبار السماء ، وعلى الزمر واللعب ، والباطل كله . اهـ من
القرطبي بلفظه ، وقد رأيت تعريفه للعراف والكاهن .
وقال
البغوي : العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ، ومكان الضالة ونحو ذلك ، وقال
أبو العباس بن تيمية : العراف : اسم للكاهن والمنجم والرمال ، ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق .
والمراد بالطرق : قيل الخط الذي يدعي به الاطلاع على الغيب ، وقيل إنه الضرب بالحصى الذي يفعله النساء ، والزجر هو العيافة ، وهي التشاؤم والتيامن بالطير ، وادعاء معرفة الأمور من كيفية طيرانها ، ومواقعها ، وأسمائها ، وألوانها ، وجهاتها التي تطير إليها .
ومنه قول
علقمة بن عبدة التميمي : [ البسيط ]
ومن تعرض للغربان يزجرها على سلامته لا بد مشئوم
وكان أشد العرب عيافة
بنو لهب ، حتى قال فيهم الشاعر : [ الطويل ]
خبير بنو لهب فلا تك ملغيا مقالة لهبي إذا الطير مرت
وإليه الإشارة بقول ناظم عمود النسب : [ الرجز ]
في
مدلج بن بكر القيافة كما للهب كانت العيافة
ولقد صدق من قال : [ الطويل ]
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع
ووجه تكفير بعض أهل العلم لمن يدعي الاطلاع على الغيب ، أنه ادعى لنفسه ما استأثر الله تعالى به دون خلقه ، وكذب القرآن الوارد بذلك كقوله :
قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ 27 \ 65 ] ، وقوله هنا :
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] ، ونحو ذلك .
وعن الشيخ
أبي عمران من علماء المالكية : أن
حلوان الكاهن لا يحل له ، ولا يرد لمن أعطاه له ، بل يكون للمسلمين في نظائر نظمها بعض علماء المالكية بقوله : [ الرجز ]
وأي مال حرموا أن ينتفع موهوبه به ورده منع
[ ص: 485 ] حلوان كاهن وأجرة الغنا ونائح ورشوة مهر الزنا
هكذا قيل ، والله تعالى أعلم .