المسألة السادسة : في
زكاة المعادن والركاز .
اعلم أن العلماء أجمعوا على وجوب إخراج حق شرعي من المعادن في الجملة ، لكن وقع بينهم الاختلاف في بعض الصور لذلك ، فقال قوم : لا يجب في شيء من المعادن الزكاة ، إلا الذهب والفضة خاصة ، فإذا أخرج من المعدن عشرين مثقالا من الذهب ، أو مائتي درهم من الفضة ، وجب عليه إخراج ربع العشر من ذلك من حين إخراجه ، ولا يستقبل به حولا .
وممن قال بهذا :
مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، ومذهب
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد كمذهبهما . إلا أنه يوجب الزكاة في جميع المعادن من ذهب ، وفضة ، وزئبق ، ورصاص ، وصفر ، وحديد ، وياقوت ، وزبرجد ، ولؤلؤ ، وعقيق ، وسبج ، وكحل ، وزجاج ، وزرنيخ ، ومغرة ، ونحو ذلك ، وكذلك المعادن الجارية ، كالقار ، والنفط ، ونحوهما ، ويقوم بمائتي درهم ، أو عشرين مثقالا ، ما عدا الذهب والفضة ، فجميع المعادن عنده تزكى ، واللازم فيها ربع العشر .
وذهب
أبو حنيفة رحمه الله ، إلى أن المعدن من جملة الركاز ، ففيه عنده الخمس ، وهو عنده الذهب والفضة ، وما ينطبع كالحديد والصفر والرصاص في أشهر الروايتين ، ولا يشترط عنده النصاب في المعدن والركاز .
وممن قال بلزوم العشر في المعدن :
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز ، وحجة من قال بوجوب الزكاة في جميع المعادن ، عموم قوله تعالى
ومما أخرجنا لكم من الأرض .
وحجة من قال بوجوبها في معدن الذهب والفضة فقط : أن الأصل عدم وجوب الزكاة ، فلم تجب في غير الذهب والفضة للنص عليهما دون غيرهما ، واحتجوا أيضا بحديث : "
لا زكاة في حجر " ، وهو حديث ضعيف ، قال فيه
ابن حجر في " التلخيص " رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي ، من حديث
عمر بن أبي عمر الكلاعي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، ورواه
البيهقي ، من طريقه ، وتابعه
nindex.php?page=showalam&ids=16551عثمان الوقاصي ،
ومحمد بن عبيد الله العرزمي ، كلاهما عن
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب ، وهما متروكان . اهـ .
وعمر بن أبي عمر الكلاعي ضعيف ، من
[ ص: 143 ] شيوخ بقية المجهولين ، قاله في " التقريب " واحتج لوجوب الزكاة في المعدن بما رواه
مالك في " الموطإ " عن
nindex.php?page=showalam&ids=15885ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قطع
لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية ، وهي من ناحية الفرع . فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة . وقال
ابن حجر في " التلخيص " : ورواه
أبو داود ،
nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني ، والحاكم ،
والبيهقي موصولا ، ليست فيه زيادة : وهي من ناحية الفرع ، إلخ .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : بعد أن روى حديث
مالك : ليس هذا ما يثبته أهل الحديث ولم يثبتوه ولم يكن فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إقطاعه ، وأما الزكاة دون الخمس فليست مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال
البيهقي : وهو كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في رواية
مالك ، وقد روي عن
الدراوردي ، عن
ربيعة ، موصولا ، ثم أخرجه عن
الحاكم ،
والحاكم أخرجه في " المستدرك " وكذا ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر من رواية
الدراوردي ، قال : ورواه
أبو سبرة المديني ، عن
مطرف ، عن
مالك ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17004محمد بن عمرو بن علقمة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قلت : أخرجه
أبو داود ، من الوجهين . اهـ .
قال مقيده عفا الله عنه : الاستدلال بهذه الزيادة على الحديث المرفوع التي ذكرها
مالك في " الموطإ " ، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم - من نوع الاستدلال بالاستصحاب المقلوب ، وهو حجة عند جماعة من العلماء من المالكية ، والشافعية .
والاستصحاب المقلوب : هو الاستدلال بثبوت الأمر في الزمن الحاضر على ثبوته في الزمن الماضي ، لعدم ما يصلح للتغيير من الأول إلى الثاني .
قال صاحب " جمع الجوامع " : أما ثبوته في الأول لثبوته في الثاني فمقلوب ، وقد يقال فيه : لو لم يكن الثابت اليوم ثابتا أمس لكان غير ثابت ، فيقتضي استصحاب أمس أنه الآن غير ثابت ، وليس كذلك ، فدل على أنه ثابت .
وقال : في " نشر البنود " : وقد يقال في الاستصحاب المقلوب ليظهر الاستدلال به : لو لم يكن الثابت اليوم ثابتا أمس لكان غير ثابت أمس ; إذ لا واسطة بين الثبوت وعدمه ، فيقتضي استصحاب أمس الخالي عن الثبوت فيه ، أنه الآن غير ثابت ، وليس كذلك لأنه مفروض الثبوت الآن ، فدل ذلك على أنه ثابت أمس أيضا ، ومثل له بعض المالكية بالوقف ، إذا جهل مصرفه ووجد على حالة فإنه يجري عليها ; لأن وجوده على تلك الحالة
[ ص: 144 ] دليل على أنه كان كذلك في عقد الوقف ، ومثل له " المحلى " ، بأن يقال في المكيال الموجود : كان على عهده صلى الله عليه وسلم ، باستصحاب الحال في الماضي ، ووجهه في المسألة التي نحن بصددها ; أن لفظ : فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم يدل بالاستصحاب المقلوب أنها كانت كذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لعدم ما يصلح للتغيير كما ذكرنا .
وقد أشار في " مراقي السعود " إلى مسألة الاستصحاب المذكور في " كتاب الاستدلال " بقوله : [ الرجز ]
ورجحن كون الاستصحاب للعدم الأصلي من ذا الباب بعد قصارى البحث عن نص فلم يلف وهذا
البحث وفقا منحتم
إلى أن قال ، وهو محل الشاهد : [ الرجز ]
وما بماض مثبت للحال فهو مقلوب وعكس الخالي
كجري ما جهل فيه المصرف على الذي الآن لذاك يعرف
وأما
الركاز : ففيه الخمس بلا نزاع ; لقوله صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007734وفي الركاز الخمس " أخرجه الشيخان ، وأصحاب السنن ،
nindex.php?page=showalam&ids=12251والإمام أحمد ، من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه ، إلا أنهم اختلفوا في
المراد بالركاز .
فذهب جمهور ، منهم
مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ،
وأحمد ، إلى أن الركاز هو دفن الجاهلية ، وأنه لا يصدق على المعادن اسم الركاز .
واحتجوا بما جاء في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة المتفق عليه الذي ذكرنا بعضا منه آنفا ; فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007735والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس " ، ففرق بين المعدن والركاز بالعطف المقتضي للمغايرة .
وذهب
أبو حنيفة ،
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري ، وغيرهما إلى أن المعدن ركاز ، واحتجوا بما رواه
البيهقي من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007734وفي الركاز الخمس ، قيل يا رسول الله ، وما الركاز ؟ قال : الذهب والفضة المخلوقان في الأرض يوم خلق الله السماوات والأرض " ، ورده الجمهور بأن الحديث ضعيف ، قال
ابن حجر في " التلخيص " : رواه :
البيهقي من حديث
أبي يوسف ، عن
عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن جده ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة مرفوعا ، وتابعه
حبان بن علي ، عن
عبد الله بن سعيد ،
[ ص: 145 ] وعبد الله متروك الحديث ،
وحبان ضعيف .
وأصل الحديث ثابت في " الصحاح " ، وغيرها بدون الزيادة المذكورة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في " الجديد " : يشترط في وجوب الخمس في الركاز أن يكون ذهبا ، أو فضة دون غيرهما ، وخالفه جمهور أهل العلم ، وقال بعض العلماء : إذا كان في تحصيل المعدن مشقة ففيه ربع العشر ، وإن كان لا مشقة فيه فالواجب فيه الخمس ، وله وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى .