المسألة الثانية : اعلم أن علماء المالكية قد أخذوا من هذه الآية الكريمة : أن
لحوم ما في البحر كلها جنس واحد ; فلا يجوز التفاضل بينها في البيع ، ولا بيع طريها بيابسها ; لأنها جنس واحد .
قالوا : لأن الله عبر عن جميعها بلفظ واحد ، وهو قوله في هذه الآية الكريمة :
وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا [ 16 \ 14 ] ، وهو شامل لما في البحر كله .
ومن هنا جعل علماء المالكية لللحوم أربعة أجناس لا خامس لها :
الأول : لحم ما في البحر كله جنس واحد ، لما ذكرنا .
الثاني :
لحوم ذوات الأربع من الأنعام والوحوش كلها عندهم جنس واحد . قالوا : لأن الله فرق بين أسمائها في حياتها ، فقال :
من الضأن اثنين ومن المعز اثنين [ 6 \ 143 ] ، ثم قال :
ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين [ 6 \ 144 ] ، أما بعد ذبحها فقد عبر عنها باسم واحد ، فقال :
أحلت لكم بهيمة الأنعام [ 5 \ 1 ] ، فجمعها بلحم واحد . وقال كثير من العلماء : يدخل في بهيمة الأنعام الوحش كالظباء .
الثالث :
لحوم الطير بجميع أنواعها جنس واحد ; لقوله تعالى :
ولحم طير مما يشتهون [ 56 \ 21 ] ،
[ ص: 345 ] فجمع لحومها باسم واحد .
الرابع :
الجراد هو جنس واحد عندهم ، وقد قدمنا في " سورة البقرة " الإشارة إلى الاختلاف في ربويته عندهم ، ومشهور مذهب
مالك عدم ربويته ، بناء على أن غلبة العيش بالمطعوم من أجزاء العلة في الربا ; لأن علة الربا في الربويات عند مالك : هي الاقتيات والادخار . قيل : وغلبة العيش . وقد قدمنا : أن الاختلاف في اشتراط غلبة العيش تظهر فائدته في أربعة أشياء : وهي الجراد ، والبيض ، والتين ، والزيت ، وقد قدمنا تفصيل ذلك في " سورة البقرة " .
فإذا علمت ذلك ; فاعلم أن كل جنس من هذه الأجناس المذكورة يجوز بيعه بالجنس الآخر متفاضلا يدا بيد . ويجوز بيع طريه بيابسه يدا بيد أيضا في مذهب
مالك - رحمه الله تعالى - .
ومذهب الإمام
أبي حنيفة - رحمه الله - : أن اللحوم تابعة لأصولها ، فكل لحم جنس مستقل كأصله : فلحم الإبل عنده جنس مستقل ، وكذلك لحم الغنم ولحم البقر ، وهكذا ; لأن اللحوم تابعة لأصولها وهي مختلفة كالأدقة والأدهان .
أما مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ،
وأحمد ، في هذه المسألة فكلاهما عنه فيها روايتان . أما الروايتان عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، فإحداهما : أن اللحوم كلها جنس واحد ; لاشتراكها في الاسم الخاص الذي هو اللحم . الثانية : أنها أجناس كأصولها : كقول
أبي حنيفة .
وقال صاحب المهذب : إن هذا قول
المزني وهو الصحيح .
وأما الروايتان في مذهب الإمام
أحمد ; فإحداهما : أن اللحوم كلها جنس واحد . وهو ظاهر كلام
الخرقي ، فإنه قال : وسائر اللحمان جنس واحد . قال صاحب المغني : وذكره
أبو الخطاب وابن عقيل رواية عن
أحمد . ثم قال : وأنكر القاضي
أبو يعلى كون هذا رواية عن
أحمد ، وقال : الأنعام والوحوش ، والطير ، ودواب الماء أجناس ، يجوز التفاضل فيها رواية واحدة ، وإنما في اللحم روايتان .
إحداهما : أنه أربعة أجناس كما ذكرنا . الثانية : أنه أجناس باختلاف أصوله . انتهى من المغني بتصرف يسير ، بحذف ما لا حاجة له ، فهذه مذاهب الأربعة في هذه المسألة .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : اختلاف العلماء في هذه المسألة من الاختلاف في تحقيق مناط من نصوص الشرع ، وذلك أنه ثبت في صحيح
مسلم وغيره من حديث
[ ص: 346 ] nindex.php?page=showalam&ids=63عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " فإذا اختلفت هذه الأصناف ; فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد " ، فعلم أن اختلاف الصنفين مناط جواز التفاضل .
واتحادهما مناط منع التفاضل ، واختلاف العلماء في تحقيق هذا المناط ، فبعضهم يقول : اللحم جنس واحد يعبر عنه باسم واحد ، فمناط تحريم التفاضل موجود فيه . وبعضهم يقول : هي لحوم مختلفة الجنس ; لأنها من حيوانات مختلفة الجنس ; فمناط منع التفاضل غير موجود . والعلم عند الله تعالى .