قوله تعالى :
ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن أولئك الكفار الذين يصرفون الناس عن القرآن بدعواهم أنه أساطير الأولين ، تحملوا أوزارهم - أي : ذنوبهم - كاملة ، وبعض أوزار أتباعهم الذين اتبعوهم في الضلال ; كما يدل عليه حرف التبعيض الذي هو " ومن " ، في قوله :
ومن أوزار الذين يضلونهم الآية [ 16 \ 25 ] .
وقال
القرطبي : " من " لبيان الجنس ; فهم يحملون مثل أوزار من أضلوهم كاملة .
وأوضح تعالى هذا المعنى في قوله :
وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون [ 39 \ 13 ] ، واللام في قوله " ليحملوا " تتعلق بمحذوف دل المقام عليه ، أي : قدرنا عليهم أن يقولوا في القرآن : أساطير الأولين ; ليحملوا أوزارهم .
تنبيه .
فإن قيل : ما وجه تحملهم بعض أوزار غيرهم المنصوص عليه بقوله :
ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الآية [ 16 \ 25 ] ، وقوله :
وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم الآية [ 29 \ 13 ] ، مع أن الله يقول :
ولا تزر وازرة وزر أخرى [ 35 \ 18 ] ، ويقول - جل وعلا - :
ولا تكسب كل نفس إلا عليها [ 6 \ 164 ] ، ويقول
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون [ 2 \ 134 ، 2 - 141 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 364 ] فالجواب - والله تعالى أعلم - أن رؤساء الضلال وقادته تحملوا وزرين : أحدهما : وزر ضلالهم في أنفسهم .
والثاني : وزر إضلالهم غيرهم ; لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا . وإنما أخذ بعمل غيره ; لأنه هو الذي سنه وتسبب فيه ، فعوقب عليه من هذه الجهة ; لأنه من فعله ، فصار غير مناف لقوله
ولا تزر وازرة الآية [ 35 \ 18 ] .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=11997زهير بن حرب ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15628جرير بن عبد الحميد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش ، عن
موسى بن عبد الله بن يزيد ،
وأبي الضحى ، عن
عبد الرحمن بن هلال العبسي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=97جرير بن عبد الله ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007894جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم الصوف ، فرأى سوء حالهم ، قد أصابتهم حاجة فحث الناس على الصدقة ، فأبطؤوا عنه حتى رؤي ذلك في وجهه ، قال : ثم إن رجلا من الأنصار جاء بصرة من ورق ، ثم جاء آخر ، ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده ، كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء . ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده ، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء " اه .
أخرج
مسلم في صحيحه هذا الحديث ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=97جرير بن عبد الله من طرق متعددة . وأخرجه نحوه أيضا من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة بلفظ : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007895من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا " . ومن دعا إلى ضلالة ، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " اه .
قال مقيده عفا الله عنه : هذه النصوص الصحيحة تدل على رفع الإشكال بين الآيات ، كما تدل على أن جميع حسنات هذه الأمة في صحيفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فله مثل أجور جميعهم ; لأنه - صلوات الله عليه وسلامه - هو الذي سن لهم السنن الحسنة جميعها في الإسلام ، نرجو الله له الوسيلة والدرجة الرفيعة ، وأن يصلي ويسلم عليه أتم صلاة وأزكى سلام .
وقوله في هذه الآية الكريمة : (
بغير علم ) [ 16 \ 25 ] ، يدل على أن
الكافر غير معذور بعد إبلاغ الرسل المؤيد بالمعجزات ، الذي لا لبس معه في الحق ، ولو كان يظن أن
[ ص: 365 ] كفره هدى ; لأنه ما منعه من معرفة الحق مع ظهوره إلا شدة التعصب للكفر ، كما قدمنا الآيات الدالة على ذلك في " الأعراف " ; كقوله : (
إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) [ 7 \ 30 ] ، وقوله : (
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) [ 18 \ 103 - 104 ] ، وقوله : (
وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ) [ 39 \ 47 ] ، وحملهم أوزارهم هو اكتسابهم الإثم الذي هو سبب ترديهم في النار ، أعاذنا الله والمسلمين منها .
وقال بعض العلماء : معنى حملهم أوزارهم : أن الواحد منهم عند خروجه من قبره يوم القيامة يستقبله شيء كأقبح صورة ، وأنتنها ريحا ; فيقول : من أنت ؟ فيقول : أو ما تعرفني ! فيقول : لا ولله ، إلا أن الله قبح وجهك ! أنتن ريحك ! فيقول أنا عملك الخبيث ، كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه فطالما ركبتني في الدنيا ! هلم أركبك اليوم ; فيركب على ظهره اه .
وقوله (
ألا ساء ما يزرون ) [ 16 \ 25 ] ، ( ساء ) فعل جامد ; لإنشاء الذم بمعنى بئس ، و ( ما ) ، فيها الوجهان المشار إليهما بقوله في الخلاصة :
وما مميز وقيل فاعل في نحو نعم يقول الفاضل
وقوله ( يزرون ) ، أي : يحملون ، وقال
قتادة : يعملون . اه .