قوله تعالى :
ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ، يعني أن الذين تتوفاهم الملائكة في حال كونهم ظالمي أنفسهم إذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم ، وقالوا : "
ما كنا نعمل من سوء " [ 16 \ 28 ] ، فقوله
ما كنا نعمل من سوء ، معمول قول محذوف بلا خلاف .
والمعنى : أنهم ينكرون ما كانوا يعملون من السوء ، وهو الكفر وتكذيب الرسل والمعاصي . وقد بين الله كذبهم بقوله :
بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون [ 16 \ 28 ] .
وبين في مواضع أخر : أنهم ينكرون ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي كما ذكر هنا . وبين كذبهم في ذلك أيضا ; كقوله :
ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 6 \ 23 - 24 ] ، وقوله :
قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا كذلك يضل الله [ 40 \ 74 ] ، وقوله :
يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون [ 58 \ 18 ] ، وقوله :
ويقولون حجرا محجورا [ 25 \ 22 ] ، أي : حراما محرما أن تمسونا بسوء ; لأنا لم نفعل ما نستحق به ذلك ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله هنا : " بلى " [ 16 \ 28 ] ، تكذيب لهم في قولهم :
ما كنا نعمل من سوء .
تنبيه .
لفظة : " بلى " لا تأتي في اللغة العربية إلا لأحد معنيين ، لا ثالث لهما :
الأول : أن تأتي لإبطال نفي سابق في الكلام ، فهي نقيضة " لا " ; لأن " لا " لنفي الإثبات ، و " بلى " ، لنفي النفي ; كقوله هنا :
ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، فهذا النفي نفته لفظة " بلى " ، أي : كنتم تعملون السوء من الكفر والمعاصي ، وكقوله :
زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن [ 64 \ 7 ] ، وكقوله :
وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم [ 34 \ 3 ] ، وقوله :
وقالوا لن يدخل الجنة [ ص: 369 ] إلا من كان هودا أو نصارى [ 2 \ 111 ] ، فإنه نفى هذا النفي بقوله - جل وعلا - :
بلى من أسلم وجهه لله الآية [ 2 \ 112 ] ، ومثل هذا كثير في القرآن وفي كلام العرب .
الثاني : أن تكون جوابا لاستفهام مقترن بنفي خاصة ; كقوله :
ألست بربكم قالوا بلى [ 7 \ 172 ] ، وقوله :
أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى [ 36 \ 81 ] ، وقوله :
أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى [ 40 \ 50 ] ، وهذا أيضا كثير في القرآن وفي كلام العرب . أما إذا كان الاستفهام غير مقترن بنفي فجوابه ب " ، نعم " لا بـ " ، بلى " ، وجواب الاستفهام المقترن بنفي و " نعم " مسموع غير قياسي ; كقوله :
أليس الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك لنا تداني نعم وترى الهلال كما أراه
ويعلوها النهار كما علاني
فالمحل لـ " بلى " لا لـ " نعم " في هذا البيت .
فإن قيل : هذه الآيات تدل على أن الكفار يكتمون يوم القيامة ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي ، كقوله عنهم :
والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله :
ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، ونحو ذلك . مع أن الله صرح بأنهم لا يكتمون حديثا في قوله :
ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] .
فالجواب : هو ما قدمنا من أنهم يقولون بألسنتهم : " والله ربنا ما كنا مشركين " ; فيختم الله على أفواههم ، وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون ، فالكتم باعتبار النطق بالجحود وبالألسنة ، وعدم الكتم باعتبار شهادة أعضائهم عليهم . والعلم عند الله تعالى .