قوله تعالى :
ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا الآية [ 16 \ 97 ] ، جمهور العلماء على أن المراد بالسكر في هذه الآية الكريمة : الخمر ; لأن
[ ص: 404 ] العرب تطلق اسم السكر على ما يحصل به السكر ، من إطلاق المصدر وإرادة الاسم . والعرب تقول : سكر " - بالكسر - " سكرا [ 16 \ 67 ] ، " بفتحتين وسكرا " بضم فسكون " .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في الكشاف : والسكر : الخمر ; سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا ، نحو رشد رشدا ورشدا . قال :
وجاءونا بهم سكر علينا فأجلى اليوم والسكران صاحي
ا هـ .
ومن إطلاق السكر على الخمر قول الشاعر :
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم المزاء والسكر
وممن قال : بأن السكر في الآية الخمر :
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود ،
nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر ،
وأبو رزين ،
والحسن ،
ومجاهد ،
nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي ،
والنخعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=12526وابن أبي ليلى ،
والكلبي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور ، وغيرهم . وقيل : السكر : الخل . وقيل : الطعم ، وقيل : العصير الحلو .
وإذا عرفت أن الصحيح هو مذهب الجمهور ، وأن الله امتن على هذه الأمة بالخمر قبل تحريمها فاعلم أن هذه الآية مكية ، نزلت بعدها آيات مدنية بينت
تحريم الخمر ، وهي ثلاث آيات نزلت بعد هذه الآية الدالة على إباحة الخمر .
الأولى : آية البقرة التي ذكر فيها بعض معائبها ومفاسدها ، ولم يجزم فيها بالتحريم ، وهي قوله تعالى :
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ 2 \ 219 ] ، وبعد نزولها تركها قوم للإثم الذي فيها ، وشربها آخرون للمنافع التي فيها .
الثانية : آية النساء الدالة على تحريمها في أوقات الصلوات ، دون الأوقات التي يصحو فيها الشارب قبل وقت الصلاة ، كما بين صلاة العشاء وصلاة الصبح ، وما بين صلاة الصبح وصلاة الظهر ، وهي قوله تعالى :
ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية [ 4 \ 43 ] .
الثالثة : آية المائدة الدالة على تحريمها تحريما باتا ، وهي قوله تعالى :
ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إلى قوله :
فهل أنتم منتهون [ 5 \ 90 - 91 ] .
[ ص: 405 ] وهذه الآية الكريمة تدل على تحريم الخمر أتم دلالة وأوضحها ; لأنه تعالى صرح بأنها رجس ، وأنها من عمل الشيطان ، وأمر باجتنابها أمرا جازما في قوله :
فاجتنبوه ، واجتناب الشيء : هو التباعد عنه ، بأن تكون في غير الجانب الذي هو فيه . وعلق رجاء الفلاح على اجتنابها في قوله : لعلكم تفلحون ، ويفهم منه أنه من لم يجتنبها لم يفلح ، وهو كذلك .
ثم بين بعض مفاسدها بقوله :
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة [ 15 \ 91 ] ، ثم أكد النهي عنها بأن أورده بصيغة الاستفهام في قوله :
فهل أنتم منتهون [ 5 \ 91 ] ، فهو أبلغ في الزجز من صيغة الأمر التي هي " انتهوا " ، وقد تقرر في فن المعاني : أن من معاني صيغة الاستفهام ، التي ترد لها ، الأمر ; كقوله :
فهل أنتم منتهون ، وقوله :
وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم الآية [ 3 \ 20 ] ، أي : أسلموا . والجار والمجرور في قوله :
ومن ثمرات النخيل الآية [ 16 \ 67 ] ، يتعلق بـ
تتخذون ، وكرر لفظ " من " للتأكيد ، وأفرد الضمير في قوله " منه " مراعاة للمذكور ; أي : تتخذون منه ، أي : مما ذكر من ثمرات النخيل والأعناب . ونظيره قول رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
فقوله : " كأنه " ، أي : ما ذكر من خطوط السواد والبلق . وقيل : الضمير راجع إلى محذوف دل المقام عليه ، أي : ومن عصير ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ، أي : عصير الثمرات المذكورة ، وقيل : قوله :
ومن ثمرات النخيل ، معطوف على قوله :
مما في بطونه [ 16 \ 66 ] ، أي : نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل . وقيل : يتعلق بـ :
نسقيكم ، [ 16 \ 66 ] محذوفة دلت عليها الأولى ; فيكون من عطف الجمل . وعلى الأول يكون من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل . وقيل : معطوف على " الأنعام " [ 16 \ 66 ] ، وهو أضعفها عندي .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري : التقدير : ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا ; فحذف " ما " .
قال
أبو حيان البحر : وهو لا يجوز على مذهب البصريين . وقيل : يجوز أن يكون صفة موصوف محذوف ، أي : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه
[ ص: 406 ] ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز :
ما لك عندي غير سوط وحجر وغير كبداء شديدة الوتر
جادت بكفي كان من أرمى البشر
أي : بكفي رجل كان " إلخ " ، ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري وأبو حيان .
قال مقيده - عفا الله عنه - : أظهر هذه الأقوال عندي : أن قوله :
ومن ثمرات ، يتعلق بـ :
تتخذون ، أي : تتخذون من ثمرات النخيل ، وأن " من " ، الثانية : توكيد للأولى . والضمير في قوله : منه ، عائد إلى جنس الثمر المفهوم من ذكر الثمرات ، والعلم عند الله تعالى .