قوله تعالى :
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون ، أظهر التفسيرات في هذه الآية الكريمة : أن الله ضرب فيها مثلا للكفار ، بأنه فضل بعض الناس على بعض في الرزق ، ومن ذلك تفضيله المالكين على المملوكين في الرزق ، وأن المالكين لا يرضون لأنفسهم أن يكون المملوكون شركاءهم فيما رزقهم الله من
[ ص: 411 ] الأموال والنساء وجميع نعم الله . ومع هذا يجعلون الأصنام شركاء لله في حقه على خلقه ، الذي هو إخلاص العبادة له وحده ، أي : إذا كنتم لا ترضون بإشراك عبيدكم معكم في أموالكم ونسائكم : فكيف تشركون عبيدي معي في سلطانيا ؟ ! .
ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى :
ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم الآية [ 30 \ 28 ] ، ويؤيده أن " ما " في قوله :
فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم [ 16 \ 71 ] ، نافية ، أي : ليسوا برادي رزقهم عليهم حتى يسووهم مع أنفسهم . اه .
فإذا كانوا يكرهون هذا لأنفسهم : فكيف يشركون الأوثان مع الله في عبادتها مع اعترافهم بأنها ملكه ؟ ! ! كما كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك .
وهذه الآية الكريمة نص صريح في إبطال مذهب الاشتراكية القائل : بأنه لا يكون أحد أفضل من أحد في الرزق ، ولله في تفضيل بعضهم على بعض في الرزق حكمة ; قال تعالى :
نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا الآية [ 43 \ 32 ] ، وقال :
الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [ 13 \ 26 ] ، وقال :
على الموسع قدره وعلى المقتر قدره [ 2 \ 236 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وفي معنى هذه الآية الكريمة قولان آخران :
أحدهما : أن معناها أنه جعلكم متفاوتين في الرزق ; فرزقكم أفضل مما رزق كلمة واحدة ، وهم بشر مثلكم وإخوانكم ; فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم ، حتى تساووا في الملبس والمطعم ; كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه أمر مالكي العبيد أن يطعموهم مما يطعمون ، ويكسوهم مما يلبسون " ، وعلى هذا القول فقوله تعالى :
فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم [ 16 \ 71 ] ، لوم لهم ، وتقريع على ذلك .
القول الثاني : أن معنى الآية أنه - جل وعلا - هو رازق المالكين والمملوكين جميعا ; فهم في رزقه سواء ، فلا يحسبن المالكون أنهم يردون على مماليكهم شيئا من الرزق ، فإنما ذلك رزق الله يجريه لهم على أيديهم . والقول الأول : هو الأظهر وعليه جمهور العلماء ،
[ ص: 412 ] ويدل له القرآن كما بينا . والعلم عند الله تعالى .
وقوله
أفبنعمة الله يجحدون [ 16 \ 71 ] ، إنكار من الله عليهم جحودهم بنعمته ; لأن الكافر يستعمل نعم الله في معصية الله ، فيستعين بكل ما أنعم به عليه على معصيته ، فإنه يرزقهم ويعافيهم ، وهم يعبدون غيره . وجحد : تتعدى بالباء في اللغة العربية ; كقوله :
وجحدوا بها الآية [ 27 \ 14 ] ، وقوله :
فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [ 7 \ 51 ] ، والجحود بالنعمة هو كفرانها .