ومن هدي القرآن للتي هي أقوم : هديه إلى أن
التقدم لا ينافي التمسك بالدين ، فما خيله أعداء الدين لضعاف العقول ممن ينتمي إلى الإسلام : من أن التقدم لا يمكن إلا بالانسلاخ من دين الإسلام ، باطل لا أساس له ، والقرآن الكريم يدعو إلى التقدم في جميع الميادين التي لها أهمية في دنيا أو دين ، ولكن ذلك التقدم في حدود الدين ، والتحلي بآدابه الكريمة ، وتعاليمه السماوية ; قال تعالى :
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة الآية
[ ص: 38 ] [ 8 \ 60 ] ، وقال :
ولقد آتينا داود منا فضلا ياجبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا الآية [ 34 \ 10 ، 11 ] . فقوله :
أن اعمل سابغات وقدر في السرد يدل على الاستعداد لمكافحة العدو ، وقوله :
واعملوا صالحا يدل على أن ذلك الاستعداد لمكافحة العدو في حدود الدين الحنيف ،
وداود من أنبياء " سورة الأنعام " المذكورين فيها في قوله تعالى :
ومن ذريته داود الآية [ 6 \ 84 ] ، وقد قال تعالى مخاطبا لنبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم بعد أن ذكرهم :
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 90 ] .
وقد ثبت في صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=hadith&LINKID=1007957عن مجاهد أنه سأل nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما من أين أخذت السجدة " في ص " فقال : أوما تقرأ : ومن ذريته داود - إلى قوله تعالى - أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 84 - 90 ] ، فسجدها داود ، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فدل ذلك على أنا مخاطبون بما تضمنته الآية مما أمر به داود ، فعلينا أن نستعد لكفاح العدو مع التمسك بديننا ، وانظر قوله تعالى :
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، فهو أمر جازم بإعداد كل ما في الاستطاعة من قوة ولو بلغت القوة من التطور ما بلغت ، فهو أمر جازم بمسايرة التطور في الأمور الدنيوية ، وعدم الجمود على الحالات الأول إذا طرأ تطور جديد ، ولكن كل ذلك مع التمسك بالدين .
ومن أوضح الأدلة في ذلك قوله تعالى :
وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم الآية [ 4 \ 102 ] ;
فصلاة الخوف المذكورة في هذه الآية الكريمة تدل على لزوم الجمع بين مكافحة العدو ، وبين القيام بما شرعه الله جل وعلا من دينه ، فأمره تعالى في هذه الآية بإقامة الصلاة في وقت التحام الكفاح المسلح يدل على ذلك دلالة في غاية الوضوح ، وقد قال تعالى :
ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ 8 \ 45 ] ، فأمره في هذه الآية الكريمة بذكر الله كثيرا عند التحام القتال يدل على ذلك أيضا دلالة واضحة ، فالكفار خيلوا لضعاف العقول أن النسبة بين التقدم والتمسك بالدين ، والسمات الحسنة والأخلاق الكريمة ، تباين مقابلة كتباين النقيضين كالعدم والوجود ، والنفي والإثبات ، أو الضدين
[ ص: 39 ] كالسواد والبياض ، والحركة والسكون ، أو المتضائفين كالأبوة والبنوة ، والفوق والتحت ، أو العدم والملكة كالبصر والعمى .
فإن الوجود والعدم لا يجتمعان في شيء واحد في وقت واحد من جهة واحدة ، وكذلك الحركة والسكون مثلا ، وكذلك الأبوة والبنوة ، فكل ذات ثبتت لها الأبوة لذات استحالت عليها النبوة لها ، بحيث يكون شخص أبا وابنا لشخص واحد ، كاستحالة اجتماع السواد والبياض في نقطة بسيطة ، أو الحركة والسكون في جرم ، وكذلك البصر والعمى لا يجتمعان .
فخيلوا لهم أن التقدم والتمسك بالدين متباينان تباين مقابلة ، بحيث يستحيل اجتماعهما ، فكان من نتائج ذلك انحلالهم من الدين رغبة في التقدم ، فخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين .
والتحقيق أن النسبة بين التقدم والتمسك بالدين بالنظر إلى العقل وحده ، وقطع النظر عن نصوص الكتاب والسنة إنما هي تباين المخالفة ، وضابط المتباينين تباين المخالفة أن تكون حقيقة كل منهما في حد ذاتها تباين حقيقة الآخر ، ولكنهما يمكن اجتماعهما عقلا في ذات أخرى ; كالبياض والبرودة ، والكلام والقعود ، والسواد والحلاوة .
فحقيقة البياض في حد ذاتها تباين حقيقة البرودة ، ولكن البياض والبرودة يمكن اجتماعها في ذات واحدة كالثلج ، وكذلك الكلام والقعود فإن حقيقة الكلام تباين حقيقة القعود ، مع إمكان أن يكون الشخص الواحد قاعدا متكلما في وقت واحد . وهكذا فالنسبة بين التمسك بالدين والتقدم بالنظر إلى حكم العقل من هذا القبيل ، فكما أن الجرم الأبيض يجوز عقلا أن يكون باردا كالثلج ، والإنسان القاعد يجوز عقلا أن يكون متكلما ، فكذلك المتمسك بالدين يجوز عقلا أن يكون متقدما ، إذ لا مانع في حكم العقل من كون المحافظ على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ، مشتغلا في جميع الميادين التقدمية كما لا يخفى ، وكما عرفه التاريخ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان .
أما بالنظر إلى
نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى :
ولينصرن الله من ينصره الآية [ 22 \ 40 ] وقوله :
وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] ، وقوله :
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم
لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ ص: 40 ] [ 37 \ 171 - 173 ] وقوله :
كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز [ 58 \ 21 ] وقوله :
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا الآية [ 40 \ 51 ] ، وقوله :
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين [ 9 \ 14 ] ، ونحو ذلك من الآيات وما في معناها من الأحاديث .
فإن النسبة بين التمسك بالدين والتقدم ، كالنسبة بين الملزوم ولازمه ; لأن التمسك بالدين ملزوم للتقدم ، بمعنى أنه يلزم عليه التقدم ، كما صرحت به الآيات المذكورة ، ومعلوم أن النسبة بين الملزوم ولازمه لا تعدو أحد أمرين : إما أن تكون المساواة أو الخصوص المطلق ; لأن الملزوم لا يمكن أن يكون أعم من لازمه ، وقد يجوز أن يكون مساويا له أو أخص منه ، ولا يتعدى ذلك ، ومثال ذلك : الإنسان مثلا ، فإنه ملزوم للبشرية الحيوانية ، بمعنى أن الإنسان يلزم على كونه إنسانا أن يكون بشرا وأن يكون حيوانا ، وأحد هذين اللازمين مساو له في الماصدق وهو البشر . والثاني أعم منه ما صدقا وهو الحيوان ، فالإنسان أخص منه خصوصا مطلقا كما هو معروف .
فانظر كيف خيلوا لهم أن الربط بين الملزوم ولازمه كالتنافي الذي بين النقيضين والضدين ، وأطاعوهم في ذلك لسذاجتهم وجهلهم وعمى بصائرهم ، فهم ما تقولوا على الدين الإسلامي ورموه بما هو منه بريء إلا لينفروا منه ضعاف العقول ممن ينتمي للإسلام ليمكنهم الاستيلاء عليهم ، لأنهم لو عرفوا الدين حقا واتبعوه لفعلوا بهم ما فعل أسلافهم بأسلافهم ، فالدين هو هو ، وصلته بالله هي هي ، ولكن المنتسبين إليه في جل أقطار الدنيا تنكروا له ، ونظروا إليه بعين المقت والازدراء ، فجعلهم الله أرقاء للكفرة الفجرة ، ولو راجعوا دينهم لرجع لهم عزهم ومجدهم ، وقادوا جميع أهل الأرض ، وهذا مما لا شك فيه :
ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض [ 47 \ 4 ] .