قوله تعالى :
واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا .
قال
ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : هذا أمر قدري ; كقوله تعالى :
ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [ 19 \ 83 ] ; أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا ، وتسوقهم إليها سوقا . انتهى .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي أن صيغ الأمر في قوله :
واستفزز [ 17 \ 64 ] ، وقوله :
وأجلب ، وقوله :
وشاركهم ، إنما هي للتهديد ، أي افعل ذلك فسترى عاقبته الوخيمة ; كقوله :
اعملوا ما شئتم [ 41 \ 40 ] ، وبهذا جزم
أبو حيان " في البحر " ، وهو واضح كما ترى . وقوله :
واستفزز ، أي استخف من استطعت أن تستفزه منهم ، فالمفعول محذوف لدلالة المقام عليه ، والاستفزاز : الاستخفاف . ورجل فز : أي خفيف ، ومنه قيل لولد البقرة : فز . لخفة حركته . ومنه قول
زهير :
[ ص: 169 ] كما استغاث بسيء فز غيطلة خاف العيون ولم ينظر به الحشك
" والسيء " في بيت
زهير بالسين المهملة مفتوحة بعدها ياء ساكنة وآخره همز : اللبن الذي يكون في أطراف الأخلاف قبل نزول الدرة ، والحشك أصله السكون ; لأنه مصدر حشكت الدرة : إذا امتلأت ، وإنما حركه
زهير للوزن . والغيطلة هنا : بقرة الوحش ذات اللبن . وقوله ;
بصوتك [ 17 \ 64 ] ، قال
مجاهد : هو اللهو والغناء والمزامير ; أي استخف من استطعت أن تستخفه منهم باللهو والغناء والمزامير . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : صوته يشمل كل داع دعا إلى معصية ; لأن ذلك إنما وقع طاعة له . وقيل :
بصوتك : أي وسوستك . وقوله :
وأجلب أصل الإجلاب : السوق بجلبة من السائق . والجلبة : الأصوات . تقول العرب : أجلب على فرسه ، وجلب عليه : إذا صاح به من خلف واستحثه للسبق . والخيل تطلق على نفس الأفراس ، وعلى الفوارس الراكبين عليها ، وهو المراد في الآية . والرجل : جمع راجل ، كما قدمنا أن التحقيق : جمع " الفاعل " وصفا على " فعل " بفتح فسكون ، وأوضحنا أمثلته بكثرة ، واخترنا أنه جمع موجود أغفله الصرفيون ; إذ ليست فعل - بفتح فسكون - عندهم من صيغ الجموع ، فيقولون فيما ورد من ذلك كراجل ورجل ، وصاحب وصحب ، وراكب وركب ، وشارب وشرب : إنه اسم جمع لا جمع ، وهو خلاف التحقيق .
وقرأ
حفص عن
عاصم ورجلك [ 17 \ 64 ] بكسر الجيم - لغة في الرجل جمع راجل .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : هذه القراءة على أن " فعلا " بمعنى " فاعل " نحو تعب وتاعب ومعناه : " وجمعك الرجل " . اهـ ; أي : الماشين على أرجلهم .
وشاركهم في الأموال والأولاد [ 17 \ 64 ] ، أما مشاركته لهم في الأموال فعلى أصناف : ( منها ) ما حرموا على أنفسهم من أموالهم طاعة له ; كالبحائر والسوائب ونحو ذلك ، وما يأمرهم به من إنفاق الأموال في معصية الله تعالى ، وما يأمرهم به من اكتساب الأموال بالطرق المحرمة شرعا كالربا والغصب وأنواع الخيانات ; لأنهم إنما فعلوا ذلك طاعة له .
وأما مشاركته لهم في الأولاد فعلى أصناف أيضا :
منها قتلهم بعض أولادهم طاعة له .
[ ص: 170 ] ومنها أنهم يمجسون أولادهم ويهودونهم وينصرونهم طاعة له وموالاة .
ومنها تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزى ونحو ذلك ، لأنهم بذلك سموا أولادهم عبيدا لغير الله ؛ طاعة له ، ومن ذلك أولاد الزنى ; لأنهم إنما تسببوا في وجودهم بارتكاب الفاحشة ؛ طاعة له ، إلى غير ذلك .
فإذا عرفت هذا فاعلم أن الله قد بين في آيات من كتابه بعض ما تضمنته هذه الآية من
مشاركة الشيطان لهم في الأموال والأولاد ، كقوله :
قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين [ 6 \ 140 ] فقتلهم أولادهم المذكور في هذه الآية طاعة للشيطان مشاركة منه لهم في أولادهم حيث قتلوهم في طاعته . وكذلك تحريم بعض ما رزقهم الله المذكور في الآية طاعة له مشاركة منه لهم في أموالهم أيضا ; وكقوله :
وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا الآية [ 6 \ 136 ] ، وكقوله :
وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون [ 6 \ 138 ] ، وقوله :
قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ومن الأحاديث المبينة بعض مشاركته لهم فيما ذكر ، ما ثبت في صحيح
مسلم من حديث
عياض بن حمار رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008072يقول الله عز وجل إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " ، وما ثبت في الصحيحين من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008073لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله فقال بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان " انتهى .
فاجتيال الشياطين لهم عن دينهم ، وتحريمها عليهم ما أحل الله لهم ( في الحديث الأول ) وضرها لهم لو تركوا التسمية ( في الحديث الثاني ) كل ذلك من أنواع مشاركتهم فيهم . وقوله : " فاجتالتهم " أصله افتعل من الجولان ; أي استخفتهم الشياطين فجالوا معهم في الضلال . يقال : جال واجتال : إذا ذهب وجاء ، ومنه الجولان في الحرب ، واجتال الشيء : إذا ذهب به وساقه . والعلم عند الله تعالى . والأمر في قوله : وعدهم ;
[ ص: 171 ] كالأمر في قوله :
واستفزز ، وقوله :
وأجلب ، وقد قدمنا أنه للتهديد .
وقوله :
وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 17 \ 64 ] بين فيه أن
مواعيد الشيطان كلها غرور وباطل ; كوعده لهم بأن الأصنام تشفع لهم وتقربهم عند الله زلفى ، وأن الله لما جعل لهم المال والولد في الدنيا سيجعل لهم مثل ذلك في الآخرة ، إلى غير ذلك من المواعيد الكاذبة .
وقد بين تعالى هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله :
يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 4 \ 120 ] ، وقوله :
ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور [ 57 \ 14 ] ، وقوله :
وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم [ 14 \ 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .