صفحة جزء
قوله تعالى : أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا .

أم [ 18 \ 9 ] ، في هذه الآية الكريمة هي المنقطعة عن التحقيق ، ومعناها عند الجمهور " بل والهمزة " وعند بعض العلماء بمعنى " بل " فقط ، فعلى القول الأول فالمعنى : بل [ ص: 205 ] أحسبت ، وعلى الثاني فالمعنى : بل حسبت ، فهي على القول الأول جامعة بين الإضراب والإنكار ، وعلى الثاني فهي للإضراب الانتقالي فقط .

وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة : أن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : إن قصة أصحاب الكهف وإن استعظمها الناس وعجبوا منها ، فليست شيئا عجبا بالنسبة إلى قدرتنا وعظيم صنعنا ، فإن خلقنا للسموات والأرض ، وجعلنا ما على الأرض زينة لها ، وجعلنا إياها بعد ذلك صعيدا جرزا ، أعظم وأعجب مما فعلنا بأصحاب الكهف ، ومن كوننا أنمناهم هذا الزمن الطويل ، ثم بعثناهم ، ويدل لهذا الذي ذكرنا آيات كثيرة :

منها أنه قال : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها - إلى قوله - صعيدا جرزا [ 18 \ 7 - 8 ] ، ثم أتبع ذلك بقوله : أم حسبت أن أصحاب الكهف الآية [ 18 \ 9 ] ، فدل ذلك على أن المراد أن قصتهم لا عجب فيها بالنسبة إلى ما خلقنا مما هو أعظم منها .

ومنها أنه يكثر في القرآن العظيم تنبيه الناس على أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق الناس ، ومن خلق الأعظم فهو قادر على الأصغر بلا شك ، كقوله تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس الآية [ 40 \ 57 ] ، وكقوله : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها - إلى قوله - متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 27 - 33 ] كما قدمناه مستوفى في سورة " البقرة والنحل " .

ومن خلق هذه المخلوقات العظام : كالسماء والأرض وما فيهما فلا عجب في إقامته أهل الكهف هذه المدة الطويلة ، ثم بعثه إياهم ، كما هو واضح .

والكهف : النقب المتسع في الجبل ، فإن لم يك واسعا فهو غار . وقيل : كل غار في جبل : كهف . وما يروى عن أنس من أن الكهف نفس الجبل ، غريب غير معروف في اللغة .

واختلف العلماء في المراد بـ الرقيم في هذه الآية على أقوال كثيرة ، قيل : الرقيم اسم كلبهم ، وهو اعتقاد أمية بن أبي الصلت حيث يقول :


وليس بها إلا الرقيم مجاورا وصيدهم والقوم في الكهف همد



وعن الضحاك أن الرقيم : بلدة بالروم ، وقيل : اسم الجبل الذي فيه الكهف ، وقيل : اسم للوادي الذي فيه الكهف ، والأقوال فيه كثيرة . وعن ابن عباس أنه قال : لا [ ص: 206 ] أدري ما الرقيم أكتاب أم بنيان ؟ .

وأظهر الأقوال عندي بحسب اللغة العربية وبعض آيات القرآن ، أن الرقيم معناه : المرقوم ، فهو " فعيل " بمعنى " مفعول " من : رقمت الكتاب : إذا كتبته ، ومنه قوله تعالى : كتاب مرقوم الآية [ 83 \ 9 ، و 83 \ 20 ] . سواء قلنا : إن الرقيم كتاب كان عندهم فيه شرعهم الذي تمسكوا به ، أو لوح من ذهب كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم وسبب خروجهم ، أو صخرة نقشت فيها أسماؤهم ، والعلم عند الله تعالى .

والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم : طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين أحدهما معطوف على الآخر ، خلافا لمن قال : إن أصحاب الكهف طائفة ، وأصحاب الرقيم طائفة أخرى ، وأن الله قص على نبيه في هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف ولم يذكر له شيئا عن أصحاب الرقيم ، وخلافا لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدت عليهم باب الكهف الذي هم فيه ، فدعوا الله بأعمالهم الصالحة ، وهم البار بوالديه ، والعفيف ، والمستأجر ، وقصتهم مشهورة ثابتة في الصحيح ، إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المراد ، بعيد كما ترى .

واعلم أن قصة أصحاب الكهف وأسماءهم ، وفي أي محل من الأرض كانوا ، كل ذلك لم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء زائد على ما في القرآن ، وللمفسرين في ذلك أخبار كثيرة إسرائيلية أعرضنا عن ذكرها لعدم الثقة بها .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : عجبا صفة لمحذوف ، أي شيئا عجبا . أو آية عجبا .

وقوله : من آياتنا في موضع الحال ، وقد تقرر في فن النحو أن نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا ، وأصل المعنى : كانوا عجبا كائنا من آياتنا ، فلما قدم النعت صار حالا .

التالي السابق


الخدمات العلمية