(
قل أغير الله أتخذ وليا ) الولي الناصر ومتولي الأمر المتصرف فيه ، والاستفهام هنا لإنكار اتخاذ غير الله وليا ، لا لإنكار الولي مطلقا ، ولهذا لم يقل : أأتخذ وليا غير الله ، ولا : أأتخذ غير الله وليا . ومثله : (
أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ) ( 39 : 64 ) وإنما يتحقق اتخاذ غير الله وليا في صورة واحدة ، وهو أن يطلب من غيره النصر أو غير النصر من ضروب التصرف في النفع والضر فعلا ومنعا فيما هو فوق كسب ذلك الغير وتصرفه الذي منحه الله لأبناء جنسه; ولذلك فسر الولي بالمعبود في هذا المقام . وأما تناصر المخلوقين وتولي بعضهم لبعض فيما هو من كسبهم العادي فلا يدخل في عموم اتخاذ الله وليا أو اتخاذهم أولياء من دون الله . فقد أثنى الله تعالى على المؤمنين بأن بعضهم أولياء بعض . وبين أيضا أن الكفار بعضهم أولياء بعض ، وقد تقدم بيان هذا من قبل ، وقد كان المشركون من الوثنيين ومن طرأ عليهم الشرك من أهل الكتاب يتخذون معبوداتهم وأنبياءهم وصلحاءهم أولياء من دون الله تعالى ، بمعنى أنهم بندائهم ودعائهم والتوجه إليهم والاستغاثة بهم يشفعون لهم عند الله تعالى في قضاء حاجتهم من نصر على عدو وشفاء من مرض وسعة في رزق وغير ذلك . فكان هذا عبادة منهم لهم وجعلهم شركاء لله باعتقاد كون حصول المطلوب من غير أسبابه العادية التي مضت بها السنن الإلهية العامة قد كان بمجموع إرادة هؤلاء الأولياء وإرادة الله تعالى ، فمقتضى هذا الاعتقاد أن إرادة الله تعالى ما تعلقت بفعل ذلك المطلب إلا بالتبع لإرادة الولي الشافع أو المتخذ وليا شفيعا ، والحق أن إرادة الله تعالى أزلية لا يمكن أن تؤثر فيها
[ ص: 277 ] المحدثات ، كما تقدم تقريره مرارا بشواهد الآيات القرآنية . ثم وصف الله تعالى بما ينافي اتخاذ غيره وليا فقال :
(
فاطر السماوات والأرض ) مبدعهما أي مبدئهما على غير مثال سابق ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : ما عرفت ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان من بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي ابتدعتها ، وأصل الفطر الشق ، ومنه (
إذا السماء انفطرت ) ( 82 : 1 ) بمعنى إذا السماء انشقت وقيل للكمأة فطر; لأنها تفطر الأرض فتخرج منها . وإيجاد البئر إنما يبتدأ بشق الأرض بالحفر ، وقد كانت المادة التي خلق الله منها السماوات والأرض كتلة واحدة دخانية ، ففتق رتقها وفصل منها أجرام السماوات والأرض وذلك ضرب من الفطر والشق (
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) الرؤية هنا علمية .
وصف الله تعالى بفاطر السماوات والأرض وهو لا نزاع فيه يؤيد إنكار اتخاذ غيره وليا يستنصر ويستعان به ، أو يتخذ واسطة للتأثير في الإرادة الإلهية ، فإن من فطر السماوات والأرض بمحض إرادته من غير تأثير مؤثر ولا شفاعة شافع يجب أن يتوجه إليه وحده بالدعاء ، وإياه يستعان في كل ما وراء الأسباب ، وأكد هذا بقوله : (
وهو يطعم ولا يطعم ) أي يرزق الناس الطعام ولا يحتاج إلى من يرزقه ويطعمه لأنه منزه عن الحاجة إلى الطعام وغيره ، غني بنفسه عن كل ما سواه . وقرأ
أبو عمر : " ولا يطعم " بفتح الياء أي لا يأكل وهذه الجملة حالية مؤيدة لإنكار اتخاذ ولي غير الله ، وفيها تعريض بمن اتخذوا أولياء من دونه من البشر بأنهم محتاجون إلى الطعام ، لا حياة لهم ولا بقاء إلى الأجل المحدود بدونه ، وأن الله تعالى هو الذي خلق لهم الطعام ، فهم عاجزون عن البقاء بدونه وعاجزون عن خلقه وإيجاده ، فكيف يتخذون أولياء مع الغني الحميد ، الرزاق الفعال لما يريد ؟ كما قال في الاحتجاج على النصارى في عبادة المسيح وأمه عليهما السلام : (
ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام ) ( 5 : 75 ) وأما الأولياء المتخذة من غير البشر كالأصنام ، فهي أضعف وأعجز من البشر ، لاتفاق عقلاء الأمم كلها على تفضيل الحيوان على الجماد وتفضيل الإنسان على جميع أنواع الحيوان .
(
قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ) أي قل أيها الرسول بعد إيراد هذه الآيات والحجج على وجوب عبادة الله وحده وعدم اتخاذ غيره وليا : إني أمرت من لدن ربي الموصوف بما ذكر من الصفات أن أكون أول من أسلم إليه وانقاد لدينه من هذه الأمة التي بعثت فيها ، فلست أدعو إلى شيء لا آخذ به ، بل أنا أول مؤمن وعامل بهذا الدين ، (
ولا تكونن من المشركين ) أي وقيل لي بعد هذا الأمر بالسبق إلى إسلام الوجه له :
[ ص: 278 ] لا يكونن من المشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء يزعمون أنهم يقربونهم إليه زلفى ، فأنا أتبرأ من دينكم ومنكم . وحاصل المعنى : أنني أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك . كذا قيل والأولى أن يقال : إن حاصله الجمع بين الإسلام والبراءة من الشرك وأهله .
وبعد هذا القول المبين لأصل الدعوة وأساس الدين ، وكون الداعي إليه مأمورا به كغيره أمر الله رسوله بقول آخر في بيان جزاء من خالف ما ذكر من الأمر والنهي آنفا ، وأنه عام لا هوادة فيه ولا شفاعة تحول دونه فقال : (
قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) قدم ذكر الخوف على شرطه الذي شأنه أن يتقدمه لأنه هو الأهم المقصود بالذكر ، وشرط " إن " لا يقتضي الوقوع ، فالمعنى إن فرض وقوع العصيان مني لربي فإنني أخاف أن يصيبني عذاب يوم عظيم وهو يوم القيامة ، وصف بالعظيم لعظمة ما يكون فيه من تجلي الرب سبحانه ومحاسبته للناس ومجازاته لهم . وحكمة هذا التعبير ما أشرنا إليه من أن هذا الدين دين الله الحق لا محاباة فيه لأحد ، مهما يكن قدره عظيما في نفسه . وأن يوم الجزاء لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة بالمعنى المعروف عند المشركين ولا سلطان لغير الله تعالى فيتكل عليه من يعصيه ، ظنا أن يخفف عنه أو ينجيه (
يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ) وإذا كان خوف النبي صلى الله عليه وسلم من العذاب على المعصية منتفيا لانتفائها بالعصمة فخوف الإجلال والتعظيم ثابت له دائما .