(
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ) المس أعم من اللمس في الاستعمال . يقال : مسه السوء والكبر والعذاب والتعب والضراء والضر والخير ، أي أصابه ذلك ونزل به ، ويقال : مسه غيره بذلك أي أصابه به . وقد وردت هذه المعاني كلها في القرآن ، ولكن المس بالخير ذكر هنا في مقابل المس بالضر مسندا إلى الله تعالى ، وفي سورة المعارج في مقابل المس بالشر غير مسند إلى الله تعالى ، والضر بالضم والفتح لغتان : أو الضر بالفتح مصدر ، وبالضم اسم مصدر ، والاستعمال فيه ، أن يضم إذا ذكر وحده ويفتح إذا ذكر مع النفع . وهو ما يسوء الإنسان في نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله أو غير ذلك من شئونه ، ويقابل النفع . وقال
الرازي : الضر اسم للألم والحزن والخوف وما يفضي إليها أو إلى أحدها ، والنفع اسم للذة والسرور وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما ، والخير اسم للقدر المشترك من دفع الضر وحصول الخير . وقال
الراغب : الخير ما يرغب فيه الكل ، كالعقل مثلا والعدل والفضل والشيء النافع وضده الشر . وأقول إن الخير ما كان فيه منفعة أو مصلحة حاضرة أو مستقبلة ، فمن الضار المكروه الذي يسوء ما يكون خيرا بحسن أثره أو عاقبته ، والشر ما لا مصلحة ولا منفعة فيه البتة ، أو ما كان ضره أكبر من نفعه . قال تعالى : (
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) ( 2 : 216 ) وقال في النساء : (
فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) ( 4 : 19 ) وقال : (
إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ) ( 24 : 11 )
والشر لا يسند إلى الله تعالى ولكنه مما يبتلي به الناس ويختبرهم وقوله تعالى : (
ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ) ( 10 : 11 ) ليس من هذا الإسناد في شيء ، وفي الحديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919660الخير كله بيديك والشر ليس إليك " .
ومن دقائق بلاغة القرآن المعجزة تحري الحقائق بأوجز العبارات وأجمعها لمحاسن الكلام مع مخالفة بعضها في بادي الرأي لما هو الأصل في التعبير كالمقابلة هنا بين الضر والخير ، وإنما مقابل الضر النفع ، ومقابل الخير الشر ، فنكتة المقابلة أن الضر من الله تعالى ليس شرا في الحقيقة ، بل هو تربية واختبار للعبد يستفيد به من هو أهل للاستفادة أخلاقا وآدابا وعلما وخبرة ، وقد بدأ بذكر الضر لأن كشفه مقدم على نيل مقابله ، كما أن صرف العذاب في الآخرة مقدم على النعيم فيها ، وهذه الآية مقابلة لما قبلها كما تقدم . ثم ذكر الخير في
[ ص: 280 ] مقابل الضر دون النفع فأفاد أن ما ينفع الناس من النعم إنما يحسن إذا كان ذلك النفع خيرا لهم بعدم ترتيب شيء من الشر عليه ، فكأنه قال : إن أصابك أيها الإنسان ضر كمرض وتعب وحاجة وحزن وذل اقتضته سنة الله تعالى فلا كاشف له ، أي لا مزيل له ولا صارف يصرفه عنك إلا هو دون الأولياء يتخذون من دونه ويتوجه إليهم المشرك لكشفه ، فهو إما أن يكشفه عنك بتوفيقك للأسباب التي تزيله ، وإما أن يكشفه بغير عمل منك ولا كسب ، ولطفه الخفي لا حد له فله الحمد ، وإن يمسسك بخير ، كصحة وغنى وقوة وجاه فهو قادر على حفظه عليك كما أنه قادر على إعطائك إياه; لأنه على كل شيء قدير ، وأما أولئك الأولياء الذين اتخذوا من دونه فلا يقدرون على مسك بخير ولا ضر . فالآية كما قال
الرازي دليل آخر على أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ غير الله وليا . وقد تبين بها وبما قبلها أن كل ما يحتاج إليه المرء في الدنيا والآخرة من كشف ضر وصرف عذاب أو إيجاد خير ومنح ثواب فإنما يطلب من الله تعالى وحده ، والطلب من الله تعالى نوعان : طلب بالعمل ومراعاة الأسباب التي تقتضيها سننه تعالى في خلقه ، وطلب بالتوجه والدعاء اللذين ندبت إليهما آياته تعالى في كتابه وأحكامه الشرعية .
هذا ما فتح الله به ، وبعد كتابته راجعنا كتاب روح المعاني فوجدنا فيه نقلا في نكتة البلاغة في
المقابلة بين الضر والخير أحببنا نقلها إتماما للفائدة قال :
" وفسروا الضر بالضم بسوء الحال في الجسم وبالفتح بضد النفع وعدل عن الشر المقابل للخير إلى الضر على ما في البحر لأن الشر أعم ، فأتى بلفظ الأخص مع الخير الذي هو عام رعاية لجهة الرحمة . وقال
ابن عطية : إن مقابلة الخير بالضر مع أن مقابلة الشر وهو أخص منه من خفي الفصاحة للعدول عن قانون الصنعة وطرح رداء التكلف ، وهو أن يقرن بأخص من ضده ونحوه لكونه أوفق بالمعنى وألصق بالمقام ، كقوله تعالى : (
إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) ( 20 : 118 ، 119 ) فجيء بالجوع مع العري ، وبالظمأ مع الصحو ، وكان الظاهر خلافه ، ومنه قول
امرئ القيس :
كأني لم أركب جوادا للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال .
ولم أسبأ الزق الروي ولم
أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال
.
وإيضاحه : أنه في الآية قرن الجوع الذي هو خلو الباطن بالعري الذي هو خلو الظاهر ، والظمأ الذي فيه حرارة الباطن بالضحى الذي فيه حرارة الظاهر ، وكذلك قرن
امرؤ القيس علوه على الجواد بعلوه على الكاعب; لأنهما لذتان في الاستعلاء وبذل المال
[ ص: 281 ] في شراء الراح ، ببذل الأنفس في الكفاح; لأن في الأول سرور الطرب وفي الثاني سرور الظفر ، وكذا هنا أوثر الضر لمناسبته ما قبله من الترهيب ، فإن انتقام العظيم عظيم ، ثم لما ذكر الإحسان أتى بما يعم أنواعه ، والآية من قبيل اللف والنشر ، فإن مس الضر ناظر إلى قوله تعالى : (
إني أخاف ) إلخ . ومس الخير ناظر إلى قوله سبحانه : (
من يصرف عنه ) إلخ .