(
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ) .
روي أن
قريشا أرسلت إلى
المدينة من سأل
اليهود عن النبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى
مكة فزعموا أن
اليهود قالوا ليس له عندنا ذكر ، فلما صار لهم عهد
باليهود كان مما رد الله تعالى به عليهم في هذه السورة قوله بعد ما تقدم من الحجج : (
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) أي يعرفون
محمدا النبي الأمي خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم لأن نعته في كتبهم واضح ظاهر ، وقد تقدم نص هذه الجملة في سورة البقرة كآيات أخرى في معناها وبينا في تفسيرها ما يؤيدها من شواهد التوراة والإنجيل . ثم بين تعالى علة إنكار المكابرين منهم لما يعرفونه من أمر نبوته صلى الله عليه وسلم فقال : (
الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ) قيل : إن " الذين " هنا بيان للذين الأولى أو بدل منها ويجوز أن يكون مبتدأ ، أي الذين خسروا أنفسهم منهم فهم لا يؤمنون به بل يكفرون كبرا وعنادا فهم لذلك ينكرون ما يعرفون . وقد بينا قريبا معنى هذه الجملة إذ وردت بنصها في الآية الثانية عشرة من هذه السورة ( ص 327 ) وموقعها هنا أن علة إنكار من أنكر نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم من علماء
اليهود كعلة إنكار من أنكرها من المشركين بعد ظهور آياتها وأنكر ما هو أعظم منها وأظهر وهو وحدانية الله تعالى ، وهي أنهم خسروا أنفسهم فهم يؤثرون ما لهم من الجاه والمكانة والرياسة في قومهم على الإيمان بالرسول النبي
[ ص: 287 ] الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم ، لعلمهم بأن هذا الإيمان يسلبهم تلك الرياسة ويجعلهم مساوين لسائر المسلمين في جميع الأحكام ، وكذلك كان بعض رؤساء
قريش يعز عليه أن يؤمن فيكون مرءوسا وتابعا ( ليتيم
أبي طالب ) فكيف وهو يكون بعد ذلك مساويا
لبلال الحبشي nindex.php?page=showalam&ids=52وصهيب الرومي وغيرهم من فقراء المسلمين فخسران هؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية لأنفسهم هو من قبيل ضعف الإرادة لا من نوع فقد العلم والمعرفة لأن الله تعالى أخبر أنهم على معرفة صحيحة في هذا الباب . وروي أن خسران النفس هنا عبارة عن خسرانها في الآخرة فقط بخسران أمكنتهم التي كانت معدة لهم في الجنة لو آمنوا بالرسول وإعطائها للمؤمنين ، ولما كان هذا الخسران أعظم ظلم ظلم به هؤلاء الكفار أنفسهم قال تعالى فيهم :
(
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ) أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا كزعم من زعم أن له ولدا أو شريكا ، أو أن غيره يدعى معه أو من دونه ويتخذ وليا له يقرب الناس إليه زلفى ويشفع لهم عنده ، أو زاد في دينه ما ليس منه أو كذب بآياته المنزلة كالقرآن المجيد ، أو آياته الكونية الدالة على وحدانيته أو التي يؤيد بها رسله ، وإذا كان كل من هذا التكذيب وذلك الكذب والافتراء يعد وحده غاية في الظلم ويطلق على صاحبه اسم التفضيل فيه فكيف يكون حال من جمع بينهما فكذب على الله وكذب بآياته المثبتة للتوحيد والمثبتة للرسالة ؟
ثم بين سوء عاقبة الظالمين فقال : (
إنه لا يفلح الظالمون ) هذا استئناف بياني وقع موقع جواب السؤال ، أي الحال والشأن أن الظالمين عامة لا يفوزون في عاقبة أمرهم يوم الحساب والجزاء بالنجاة من عذاب الله تعالى ، ولا بنعيم الجنة مهما يكن نوع ظلمهم فكيف تكون عاقبة من وصف بأنه لا أحد أظلم منه لافترائه على الله تعالى أو لتكذيبه بآياته أو عاقبة من جمع بين الأمرين فكان أظلم الظالمين ؟
الآية نزلت في الكافرين ، فلهذا يغفل الناس عن صدقها على من كذب على الله تعالى وهو يسمي نفسه أو يسميه الناس مؤمنا أو مسلما ، كأن يقول بقول أولئك المشركين فيتخذ غير الله وليا ويدعوه ليشفع عنده ، أو يزيد في دين الله برأيه فيقول : هذا واجب وهذا حلال ، وهذا حرام فيما لم ينزل الله به وحيا ولا كان مما بلغه رسوله صلى الله عليه وسلم من دينه .
ثم بين تعالى ما في نفي الفلاح من الإجمال فقال : (
ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ) أي واذكر لهم أيها الرسول يوم نحشرهم جميعا على اختلاف درجاتهم في ظلم أنفسهم بأنواعه وظلم غيرها بأنواعه ، ثم نقول
[ ص: 288 ] للذين أشركوا منهم وهم أشدهم ظلما أين الشركاء الذين كانوا يضافون إليكم لاتخاذكم إياهم أولياء فيكم الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركاء لله يدعون ويستعانون كما يدعى ويستعان ، وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى ويشفعون لكم عنده ؟ فأين ضلوا عنكم فلا يرون معكم ؟ كما قال في آية أخرى : (
وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون 6 : 94 ) وقد قرأ
يعقوب (
يحشرهم جميعا ثم يقول ) بالياء والمعنى ظاهر والاستفهام للتوبيخ والاحتجاج . .
(
ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) قرأ
ابن كثير وابن عامر وحفص " لم تكن فتنتهم " بالتاء والرفع ،
ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عنه بالتاء والنصب والباقون " لم يكن فتنتهم " بالتاء والرفع ،
ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عنه بالتاء والنصب والباقون " لم يكن فتنتهم " بالياء والنصب ، ولا فرق بين هذه القراءات في المعنى ، فإن بعضها يقدم اسم تكن عليها وبعضها يؤخره ، وبعضهم يذكر الفعل وبعضهم يؤنثه ، وكل ذلك جائز في العربية . وقرأ
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي " ربنا " بالفتح على النداء أي يا ربنا . والباقون بالجر على الصفة . والفتنة الاختبار ، وفسرت هنا بالقولة والكلام والجواب وبالشرك وقدر بعضهم مضافا محذوفا فقال : إن المعنى ثم لم تكن عاقبة هذا الاختبار أو الشرك إلا إقسامهم بالله يوم القيامة أنهم ما كانوا مشركين .
ظاهر الآية أنهم ينكرون في بعض مواقف الحشر شركهم بالله توهما منهم أن ذلك ينفعهم ، ولكنهم يعترفون به في بعضها كما يعلم من آيات أخرى ، واستشكل بعض المفسرين هذا المعنى ، واحتجوا بأن الإنكار في القيامة متعذر ، وبأن اعترافهم بالشرك ثابت في بعض الآيات كقوله تعالى حكاية عنهم : (
هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك ) ( 16 : 86 ) وقوله : (
ولا يكتمون الله حديثا ) ( 4 : 42 ) وروي أن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس سئل عن الآية وعن قوله تعالى : (
ولا يكتمون الله حديثا ) فقال : أما قوله : (
والله ربنا ما كنا مشركين ) فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم (
ولا يكتمون الله حديثا ) وذهب بعضهم إلى أن المعنى ما كنا مشركين في اعتقادنا لأننا ما كنا ندعو غيرك استقلالا بل توسلا إليك ، ليكون من ندعوهم شفعاء لنا عندك يقربوننا إليك زلفى ، لأننا كنا نستصغر أنفسنا أن تتسامى إلى دعائك كفاحا بلا واسطة وما هذا إلا تعظيم لك . وقد أورد على هذا التفسير أنه لا يلتئم مع قوله بعد هذه الحكاية عنهم : (
انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ) وأجيب عن الإيراد بأن المراد أنهم كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا بزعمهم أنهم اتخذوا شفعاء يشفعون لهم عند الله وأن هذا تعظيم لله
[ ص: 289 ] لا كفر به ، ويرد هذا القول تصريح مشركي
قريش بأن ما كانوا عليه شرك ولكن بعضهم كان يرى أنه لا بأس به لأنه بمشيئة الله ، وهؤلاء كجبرية المسلمين ، وقد أنكر القرآن عليهم هذه الشبهة في قوله من هذه السورة (
سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ) ( 148 ) إلخ . نعم إن كثيرا ممن يسمون مسلمين يدعون غير الله تعالى حتى في حال الشدة والضيق التي كان مشركو العرب يخلصون فيها الدعاء لله تعالى ، ولكنهم لا يسمون هذا شركا كما كان يسميه المشركون ، بل يسمونه توسلا أو استشفاعا أو وساطة .
وقوله تعالى هنا : ( انظر ) من النظر العقلي ، وكذب الكفار في الآخرة ثابت بمثل قوله تعالى : (
يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون 58 : 18 ) .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : تأويل هذه الآية حسن في اللغة لا يعرفه إلا من وقف على معاني كلام العرب ، وذلك أنه تعالى بين كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين في حبه ، فذكر أن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به وقالوا إنه دين آبائنا لم تكن إلا الجحود والتبرؤ منه والحلف على عدم التدين به ، ومثاله أن نرى إنسانا يحب شخصا مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه ، فيقال له : ما كانت محبتك أي عاقبة محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وتركته . فعلى هذا تكون فتنتهم هي شركهم في الدنيا كما فسرها
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، ولكن لا بد من تقدير مضاف وهو العاقبة .