القول بأن كل موجود حي :
( قال ) : وأغرب الغريب عند أهل الظاهر أن
الصوفية - قدس الله تعالى أسرارهم - جعلوا كل شيء في الوجود حيا دراكا يفهم الخطاب ، ويتألم كما يتألم الحيوان ، وما يزيد الحيوان على الجماد إلا بالشهوة ، ويستندون في ذلك إلى الشهود ، وربما يستدلون بقوله سبحانه
[ ص: 335 ] وتعالى : (
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) ( 17 : 44 ) وبنحو ذلك من الآيات والأخبار .
والذي ذهب إليه الأكثرون من العلماء أن التسبيح حالي لا قالي ونظير ذلك :
"
شكا إلي جملي طول السرى
" و "
امتلأ الحوض وقال قطني
" وما يصدر عن بعض الجمادات من تسبيح قولي كتسبيح الحصى في كفه الشريف - صلى الله عليه وسلم - مثلا إنما هو عن خلق إدراك إذ ذاك ، وما يشاهد من الصنائع العجيبة لبعض الحيوانات ليس كما قال الشيخ الرئيس مما يصدر عن استنباط وقياس ، بل عن إلهام وتسخير ; ولذلك لا تختلف ولا تتنوع ، والنقض بالحركة الفلكية لا يرد بناء على قواعدنا ، وعدم افتراس الأسد المعلم مثلا صاحبه ليس عن اعتقاد ، بل هناك هشة أخرى نفسانية ، وهي أن كل حيوان يحب بالطبع ما يلذه ، والشخص الذي يطعمه محبوب عنده فيصير ذلك مانعا عن افتراسه ، وربما يقع هذا العارض عن إلهام إلهي مثل حب كل حيوان ولده . وعلى هذا الطراز يخرج الخوف مثلا الذي يعتري بعض الحيوانات .
( قال ) : وقد أطالوا الكلام في هذا المقام ، وأنا لا أرى مانعا من القول بأن للحيوانات نفوسا ناطقة ، وهي متفاوتة الإدراك حسب تفاوتها في أفراد الإنسان ، وهي مع ذلك كيفما كانت لا تصل في إدراكها وتصرفها إلى غاية يصلها الإنسان والشواهد على هذا كثيرة ، وليس في مقابلتها قطعي يجب تأويلها لأجله ، وقد صرح غير واحد أنها عارفة بربها جل شأنه .
( قال ) : وأما أن لها رسلا من جنسها فلا أقول به ولا أفتي بكفر من قال به . وأما أن الجمادات حية مدركة فأمر وراء طور عقلي ، والله تعالى على كل شيء قدير ، وهو العليم الخبير . اهـ .
نقول : أما مذهب التناسخ ، فهو من الأساطير الخرافية ، التي ولدتها الخيالات الشعرية ، فلا نضيع الوقت بالخوض في بيان بطلانها .
وأما قول من قال : إن
للحيوانات أنفسا ناطقة ، فإن أريد به أنها كنفس الإنسان فتحقيقه يتوقف على معرفة كنه هذه النفس . وأين من يدعي هذا ويثبت دعواه ؟ ولا ينكر من له أدنى إلمام بعلم الحيوان ما أوتيه بعض أنواعه من أنواع الإدراك الذي يفوق ببعضه إدراكات الناس ، ولكنها تنحصر في مناطق ضيقة جدا ؛ لأنها متعلقة بحفظ حياته الفردية والنوعية ، وهي محدودة ضيقة . ولعلنا نفصل القول فيها في تفسير آية أخرى . وإدراك البشر لا تنحصر أنواعه ولا أفراده ، وإنما كان استعداده العلمي غير محدود بحد ؛ لأنه خلق لحياة غير محدودة بحد ، وهي حياة الآخرة ، ودعوى تكليف الحيوان الأعجم وبعثة رسل منه في كل أمة من أممه
[ ص: 336 ] لا يدل عليها عقل ولا نقل ، وقوله تعالى : (
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) ( 35 : 24 ) نزل في سياق الكلام عن البشر .
وأما
القول بحياة الجماد فهو منقول عن بعض الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين ، وعن بعض الطبيعيين والكيماويين ، ولهم عليه دلائل علمية ونظرية ، ويتوقف بيان ذلك على تعريف الحياة ومظاهرها وخواصها كالتغذي والنمو والتولد والموت ، وفي تلك الجمادات ولا سيما الأجسام المتبلورة شيء من ذلك . وكان شيخنا الأستاذ الإمام يعتقد أن الحياة منبثة في العالم كله ، ولعلنا نعود إلى هذا البحث بعد .