(
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ) أي : ومثل ذلك الفتن - أي الابتلاء والاختبار العظيم الذي دل عليه النظم الكريم بمعونة وقائع الأحوال ، وما كان عند نزول السورة من التفاوت بين المؤمنين والكفار ، فتنا بعضهم ببعض ، أي جعلنا - بحسب سنتنا في غرائز البشر وأخلاقهم - بعضهم فتنة لبعض تظهر به حقيقة حاله غير مشوبة بشيء من الشوائب التي تلتبس بها في العادة ، كما يظهر للصائغ حقيقة الذهب والفضة يفتنهما بالنار أو بعرضهما على الفتانة ( حجر الصائغ ) (
ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) أي ليترتب على هذا الفتن أن يقول المفتونون من الأقوياء المستكبرين ، في شأن الضعفاء من المؤمنين : أهؤلاء الصعاليك من العبيد والموالي والفقراء والمساكين من الله عليهم فخصهم بهذه النعمة العظيمة من جملتنا ومجموعنا أو من دوننا ؟ المن : الإثقال بنعمة عظيمة أو نعم كثيرة ، والاستفهام للإنكار والتعجيب ، يعنون أنه لا يتأتى ذلك لأنهم هم المفضلون عند الله تعالى بما أعطاهم من الغنى والثروة والجاه والقوة ، فلو كان هذا الدين خيرا لمنحهم إياه دون هؤلاء الضعفاء ، قياسا على ما أعطاهم قبله من الجاه والثراء ، ومن شواهد هذا القياس ما حكاه الله عنهم في قوله : (
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) ( 43 : 31 ) إلخ . قال المفسرون : أي عظيم بالمال والجاه
كالوليد بن المغيرة المخزومي من
مكة وهي إحدى القريتين ، أو
عروة بن مسعود الثقفي من
الطائف وهي القرية الأخرى ، وقيل : المراد بعظيم
مكة أبو جهل ، والشواهد على هذا القياس الحملي كثيرة عنهم وعن غيرهم .
وقد رد الله تعالى عليهم بقوله : (
أليس الله بأعلم بالشاكرين ) وهذا الاستفهام التقريري على أكمل وجه ؛ لبنائه على إحاطة علمه تعالى ، ووجه الرد أن الحقيقي بمن الله وزيادة نعمه إنما هم الذين يقدرونها قدرها ، ويعرفون حق المنعم بها ، فيشكرونها له باستعمالها فيما تتم به حكمته وتنال مرضاته - لا من سبق إنعامه عليهم فكفروا وبطروا ، وعتوا عن أمره ، واستكبروا بل هؤلاء جديرون بأن يسلب منهم ما كان أنعم به عليهم ، وبهذا مضت سنته في عباده ، ولولا ذلك لكانت النعم خالدة تالدة لا تنزع ممن أوتيها ، بل تزاد وتضاعف له وإن كفر بها ، وإذا لما افتقر غني ، ولا ضعف قوي ، ولا ذل عزيز ولا ثل عرش أمير ، وهل الحق
[ ص: 371 ] الواقع إلا خلاف هذا ؟ وهل فتن أولئك الكبراء إلا بالواقع لهم من الغنى والقوة ، فظنوا لقصر نظرهم ، وغرورهم بحاضرهم ، وجهلهم بسنة الله في أمثالهم - أنه تعالى ما أعطاهم ذلك إلا تكريما لذواتهم ، وتفضيلا لهم على غيرهم ، حتى إن أحدهم ليحسب أن هذا حق له على ربه في الدنيا والآخرة ، وإن كان لا يؤمن بالآخرة ، كما بين تعالى ذلك بقوله : (
ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ) ( 41 : 50 ) وأنزل في
العاص بن وائل من طغاة
قريش (
أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ) ( 19 : 77 ) أي في الآخرة - الآيات . وقال بعض المغرورين بهذا القياس :
لقد أحسن الله فيما مضى كذلك يحسن فيما بقي .
وقد كشف الله تعالى هذا الغرور في آيات كثيرة وضرب لأصحابه الأمثال كمثل ذي الجنتين في سورة الكهف ، وزجر أهله وأضدادهم في سورة الفجر ، وفصل لهم الحقيقة في سورة الإسراء ، بقوله : (
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء ) ( 17 : 20 ) .
وهذا الرد على المشركين هنا يدل على أنه لا يدوم لهم من النعم ، ما اغتروا به ، ولا يبقى المؤمنون على الضعف الذي صبروا عليه ، بل لا بد أن تنعكس الحال ، فيسلب أولئك الأقوياء ما أعطوا من القوة والمال ، وتدول الدولة لهؤلاء الضعفاء من المؤمنين فيكونوا هم الأئمة الوارثين ؛ لأن الله تعالى وفقهم للإيمان ، وأودع في أنفسهم الاستعداد للشكر وهو يوجب المزيد (
وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) ( 14 : 76 ) وكذلك كان ، وصدق وعد الرحمن وظهر إعجاز القرآن ، وما بعد بيان الله تعالى من بيان ، وإننا نرى الناس عن هدايته غافلين ، وبوجوه إعجازه جاهلين ، حتى إن فيمن يسمون المسلمين منهم من يفتتن بشبهة أولئك المشركين الداحضة ، فيجعلها حجة ناهضة ؛ تارة على تفضيل الأغنياء على الفقراء ، وتارة على تفضيل الأمم القوية على الأمم الضعيفة ، جاهلين أن الفضيلة الصحيحة في شكر النعم باستعمالها فيما يرضي الرب لا في أعيان النعم التي ترى في اليد . فرب غني شاكر ، ورب فقير صابر ، وكم من منعم سلب النعمة بكفرها ، وكم من محروم أوتي النعم بالاستعداد لشكرها ، ثم زيدت بقدر شكره لها ، وكم من قوي أضعفه الله ببغيه ، وكم من ذليل أعزه الله بإيمانه وعدله .
هذا وإن ظاهر حكاية قول المفتونين يدل من المشركين على أن المراد بقوله : (
فتنا بعضهم ببعض ) فتنا كبراء المشركين بضعفاء المؤمنين - أي اختبرنا به حالهم في كون تركهم للإيمان لم يكن إلا جحودا ناشئا عن الكبر والعلو في الأرض ، لا عن حجة ولا شبهة مما يظهرونه ، ومفهومه أن ضعفاء المؤمنين السابقين لم يفتتنوا بغنى كبراء المشركين وقوتهم ، وقد زعم بعض
[ ص: 372 ] المفسرين أنهم فتنوا وإن لم تبين الآية كيف كان ذلك ، إذ لم تحك شيئا عن لسانهم . وقد ورد في الاختبار العام قوله تعالى في سورة الفرقان : (
وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ) ( 25 : 20 ) أي جعلنا كلا منكم اختبارا للآخر في اختلاف حاله معه بالغنى والفقر ، أو القوة والضعف ، أو الصحة والمرض ، أو العلم والجهل ، أو غير ذلك - هذا يحتقر هذا ويبغي عليه ، وهذا يحسد هذا ويكيد له . فاصبروا فإنه لا يسلم من هذه الفتن إلا الصابرون . نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصابرين الشاكرين .