1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة الأنعام
  4. تفسير قوله تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين
صفحة جزء
( فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون ) أي فلما أفلت كما أفل غيرها ، واحتجب [ ص: 469 ] ضوؤها المشرق وذهب سلطانها ، وكانت الوحشة بذلك أشد من الوحشة باحتجاب الكوكب والقمر - صرح - عليه الصلاة والسلام - بالنتيجة المرادة من ذلك التعريض ، فتبرأ من شرك قومه الذي أظهر مجاراتهم عليه في ليلته ويومه . والبراءة من الشيء : التفصي منه والتنحي عنه لاستقباحه ، فهو كالبرء من المرض ، وهو السلامة من ألمه وضرره ، و " ما " مصدرية أو موصولة ، أي : إني بريء من شرككم بالله تعالى أو من هذه المعبودات التي جعلتموها أربابا وآلهة مع الله تعالى . فيشمل الكواكب ، والأصنام ، وكل ما عبدوه وهو كثير .

( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) تبرأ من شركهم وقفى على تلك البراءة ببيان عقيدته الحق ، وهي التوحيد الخالص ، فقال : إني وجهت وجهي وقصدي ، وجعلت توجهي في عبادتي للرب الخالق الذي فطر السماوات والأرض ، أي : ابتدأ خلقهما بما فتق من رتق مادتهما وهي دخان ، وأكمل خلقهن أطوارا في ستة أزمان ، فهو خالق هذه الكواكب النيرات ، وخالقكم وما تصنعون منه هذه الأصنام من معدن ونبات ، وتوجيه الوجه هنا بمعنى إسلامه في قوله عز وجل : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا ) ( 40 : 125 ) وقوله : ( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن ) ( 31 : 22 ) الآية . وقد تقدم في تفسير الأولى أن إسلام الوجه له تعالى عبارة عن توجه القلب ، فإن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من الإقبال ، والإعراض ، والخشوع ، والسرور ، والكآبة وغير ذلك ، وأن المراد بإسلامه وبتوجيهه لله تعالى : تركه له يتوجه إليه وحده في طلب حاجته ، وإخلاص عبوديته ، فهو وحده الرب المستحق للعبادة ، القادر على الأجر والإثابة . ومن الشواهد على استعمال الوجه بمعنى القلب حديث " لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم " وفي رواية " قلوبكم " رواه أحمد وأصحاب السنن . و " وجه " يتعدى باللام وإلى كأسلم ، وتقدم شاهد " أسلم " آنفا ، ولم يتكرر " وجه " في القرآن بهذا المعنى ، وإلا فاللام هنا بمعنى " إلى " كقوله تعالى : ( بأن ربك أوحى لها ) ( 99 : 5 ) وقوله : ( لعادوا لما نهوا عنه ) ( 6 : 28 ) واخترع الرازي للام هنا نكتة سماها دقيقة ، فقال : المعنى أن توجيه وجه القلب ليس إليه ؛ لأنه متعال عن الحيز والجهة ، بل إلى خدمته وطاعته لأجل عبوديته إلخ . فجعل اللام " دليلا ظاهرا " على كون المعبود متعاليا عن الحيز والجهة . وهذا تحكم مردود لا تقبله اللغة ولا يقتضيه العقل ، ولا يتفق مع ما ورد في القرآن في معنى توجيه الوجه . أما إباء اللغة له فلأن اللام لو كانت للتعليل مع حذف مضاف لكانت الآية خالية من المقصود منها بالذات ، وهو كون توجيه القلب بالعبادة إلى الله تعالى فاطر السماوات والأرض ; إذ التعليل على ما فيه من التكلف يصدق بالتوجه إلى غيره تعالى توسلا إليه ، كالتوجه إلى الكوكب وغيره ، لأجل خالقه لا لأجله باعتقاد أنه هو الذي يقرب إليه زلفى ، أو يشفع عنده . وأما العقل فإنه يدرك أن توجه القلب [ ص: 470 ] لا ينحصر في كونه إلى الحيز والجهة المحصورة ، وأما القرآن فقد عدى إسلام الوجه ب ( إلى ) في سورة لقمان وباللام في سورة النساء ، وهي بمعنى توجيهه كما تقدم آنفا .

هذا وإن التعبير بفاطر السماوات والأرض هو وجه الحجة في الآية ، فإن ما فتن به القوم من تأثير النيرات في الأرض - إن صح - لم يعد أن يكون خاصية لبعض أجرام السماء ، وهي لم توجد نفسها ولا صفاتها وخواصها ، فالواجب أن ينظر في أمرها من حيث هي جزء أو أجزاء من مجموع العالم ، وحينئذ يراها الناظر المتفكر خاضعة لتدبير من فطر العالم الكبير التي هي بعضه ، ويعلم أنه هو الحقيق بالعبادة من دونها ؛ لأنه هو الرب الحق المدبر لها ولغيرها ، وإنما يتجلى الاستدلال على وحدانية الربوبية والإلهية بالنظر في جملة العالم ، وكونه لا بد أن يكون له خالق مدبر واحد ; إذ لا يمكن أن يستقيم نظام المتعدد إلا إذا كان له جهة واحدة كما بيناه في غير هذا الموضع ، وسيعاد إن شاء الله تعالى في تفسير : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) ( 21 : 22 ) وأما الاستدلال بأجزاء الكون فيتولد منه شبهات ومشكلات كثيرة .

والحنيف صفة من الحنف ، وهو بالتحريك الميل عن الضلال والعوج إلى الاستقامة ، وضده الجنف بالجيم . فقوله حنيفا حال ، أي : وجهت وجهي له حال كوني مائلا عن معبوداتكم الباطلة وعن غيرها ، فتوجهي وإسلامي خالص له لا يشوبه شرك ولا رياء ، وما أنا من القوم المشركين به الذين يتوجهون إلى غيره من المخلوقات ، كالكواكب أو الملائكة أو الملوك والصالحين ، أو ما يتخذ لهم من الأصنام والتماثيل . تبرأ أولا من شركهم أو شركائهم ، ثم تبرأ منهم أنفسهم : ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ) ( 60 : 4 ) روى ابن جرير عن ابن زيد أن قوم إبراهيم قالوا حين قال : إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض - : ما جئت بشيء ونحن نعبده وتتوجهه . فرد عليهم بأنه حنيف ، أي مخلص له ، لا يشرك به كما يشركون . انتهى بالمعنى .

وفي الآيات قراءات لا تتعلق بالمعنى : كفتح ياء " إنى " وسكونها ، وإمالة " رأى " وكسر الراء والهمزة فيها ، ولكن قراءة يعقوب ضم " آزر " على النداء ، فهي دليل على كونه اسما علما ؛ لأن حذف حرف النداء خاص بالعلم في الفصيح ، وغيره شاذ .

التالي السابق


الخدمات العلمية