(
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) قيل : إن الإشارة إلى كل ما تقدم في هذا السياق ، وقيل : إلى الآية الأخيرة منه ، والأول أقوى وأظهر وأعم وأشمل ، والمراد بالحجة جنسها ، لا فرد من أفرادها ، أي وتلك الحجة التي تضمنها ما تقدم من المقال ، البعيدة المرمى في إثبات الحق وتزييف الضلال ، هي حجتنا البالغة ، التي لا تنال إلا بهدايتنا السابغة ، أعطيناها
إبراهيم حجة على قومه مستعلية عليهم ، قاطعة لألسنتهم (
نرفع درجات من نشاء ) الدرجات في الأصل مراقي السلم وتوسع فيها فصارت تطلق على المراتب المعنوية في الخير والجاه والعلم والسيادة والرزق ، وقد قرأ الكوفيون درجات بالتنوين ، وقرأها الباقون بالإضافة إلى من نشاء ، ومعنى الأول نرفع من شئنا من عبادنا درجات بعد أن لم يكن على درجة منها ، ومعنى الثانية نرفع درجات من شئنا من أصحاب الدرجات حتى تكون درجته في كل فضيلة ومنقبة أرفع من درجة غيره فيها ، وحكمة القراءتين ، إثبات المعنيين ، فالعلم النظري درجة كمال ، والحكمة العلمية والعملية درجتا كمال ، وفصل الخطاب وقوة العارضة في الحجاج من درجات الكمال ، والسيادة والحكم بالحق درجة كمال ، والنبوة والرسالة أعلى من كل هذه الدرجات ; لأنها تشتمل عليها وتزيد عنها ، وكل ذلك متفاوت بفضل الله فضل بعض أهله على بعض ، فهو سبحانه يؤتي الدرجات ابتداء بإعداده وبتوفيقه من يشاء للكسبي منها ، واختصاصه من
[ ص: 486 ] يشاء بالوهبي منها ، ثم هو الذي يرفع درجات من يؤتيهم ذلك بتوفيق صاحب الدرجة الكسبية إلى ما ترتقي به درجته ، وبصرف موانع هذا الارتقاء عنه ، وبإيتاء ذي الدرجة الوهبية ( النبوة ) ما لم يؤت غيره من أهلها من المناقب والآيات المنزليه والتكوينية وكثرة إهداء الخلق بها (
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ) 2 : 253 وجملة ( نرفع ) استئنافية مبنية أن ما آتى الله
إبراهيم عليه الصلاة والسلام من الحجة كان باختصاصه بأعلى درجات النبوة الوهبية ، وما ترتب عليها من درجات الدعوة الكسبية ، وقوله تعالى بعد هذا : (
إن ربك حكيم عليم ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله مبين لمنشئه ومتعلقه من صفات الله تعالى ، وقد وضع فيه اسم الرب مضافا إلى ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام ، موضع نون العظمة على طريق الالتفات ، تذكيرا منه تعالى لخاتم رسله بفضله عليه وتفضيله إياه ، برفعه درجات على جميع رسل الله ، فهو يقول له إن ربك الذي رباك وآواك ، وعلمك وهداك ، ورفع ذكرك بجوده وكرمه ، وجعلك خاتم رسله لجميع خلقه ، حكيم في فعله وصنعه ، عليم بشئون خلقه وسياسة عباده ، وسيريك شاهد ذلك عيانا في سيرتك مع قومك ، كما أراكه بيانا فيما كان من
إبراهيم مع قومه .
وقد زعم
الرازي أن هذه الآيات تدل على أن معارف الأنبياء بربهم استدلالية لا ضرورية ، وإلا لما احتاج
إبراهيم إلى الاستدلال ، وعلى أنه لا طريق إلى معرفة الله تعالى إلا النظر والاستدلال بأحوال المخلوقات ; إذ لو أمكن تحصيلها بغير ذلك لما عدل عليه الصلاة والسلام إلى هذه الطريقة . وقد علم مما فسرنا به الآيات بطلان الحصر في هذين الزعمين وبطلان غيره من مزاعمه النظرية في هذا المقام . والحق أن معرفة الله تعالى لا تحصل على الوجه الصحيح إلا بتعليم الوحي وعلم الأنبياء به ضروري لا نظري ، فقد علمهم به ما لم يكونوا يعلمون بنظرهم من المسائل ، وعلمهم ما يثبتونها به من الحجج العقلية والدلائل ، ولكن من طرق دعوتهم إلى ما هداهم إليه ، ومن استدلالهم عليه بعد إعلامهم به ، ما هو كسبي لهم يؤدونه بنظرهم واستدلالهم ، وقد اطلعنا على نظريات فلاسفة
اليونان ، وغيرهم من الفلاسفة وعلماء الكلام ، فوجدنا أكثرها في باب الإلهيات أوهاما ، وقد اعترف
الرازي نفسه بذلك في آخر عمره ، وندم على ما فرط فيه ، ولنا بيتان في هذا المقام ، قلناهما في أيام تحصيل علم الكلام :
يا أيها الرجل الذي هو جاهد في الفلسفه .
ماذا يروقك من تعلــ
ـمها وأكثرها سفه
.